علينا البدء من الأساس هنا، علم الاجتماع، وبالخصوص حول هندسة العمارة في خدمة المجتمع، وفي الحالة الفلسطينية، يمكننا القول بكل سهولة حول "العمارة في خدمة المقاومة"، استناداً إلى أننا شعب يخضع تحت الاحتلال، وكلّ تطلعاته هي نحو التحرّر، وعندما تكون فكرة التحرر هي الحالة اليومية للمجتمع، فكل قراراته وتفكيره يجب أن تخضع لهذا الأمر، أي أن "التحرّر" عبارة عن غربال أو منظور، يجب أن نضع كل ما نفعله أمامه، وبناءً على خدمته لهذا الهدف نفعله أو لا.
مرةً أخرى، أي أن كل فعل يجب إعادة إنتاجه وإعادة استخدامه حتى يخدم الهدف الأساسي.
قبل مدّة كنت أجلس مع باحث في علم الاجتماع في قهوة شعبية في مدينة نابلس، القهوة لها إطلالة ممتازة على المدينة، فهي تكشف الجزء الأكبر من جبل عيبال، نظر الدكتور الذي بجانبي مطوّلاً وقال: لو كنت جُنديّاً إسرائيلياً لخفت من هذا المنظر. الذي كان يقصده الدكتور حينها، مجرّد رؤيتك "للعمارَة" في المدينة، ستجدها عشوائية وغير مرتّبة و"مُربكة"، تنظر إليها كما تنظر إلى قطع ليغو مبعثرة على الأرض، الجندي الذي سينظر إليها سيتوه حتماً، فكيف بتنفيذ عملية عسكرية هناك؟
لنتذكّر مخيم جنين، الشارع يتّسع لسيّارة واحدة بصعوبة، الأزقة كثيرة ومتشعّبة، التغطية من السماء تبدو مستحيلة، لقد ذاق الاحتلال الويل وهو يحاول السيطرة على المنطقة، والحل الذي وجده حينها كان بتدمير المخيّم! لم يجد حلّاً آخر.
بعد انتهاء عملية السور الواقي وبدء عملية إعادة إعمار المخيّم، تدخل هنا "هندسة العمارة" بشكل قوي جداً وواضح، الشارع الرئيسي في المخيّم أصبح يتّسع لدبّابة ميركافا بكل أريحية، يبدو التصميم الحالي للمخيم يخدم الاحتلال أكثر بكثير مما يخدم المقاومة، مَن يسكن المخيّم أحسَّ أن هنالك أمراً ما ليس على ما يُرام، أصبحنا "مكشوفين"، وكما ردَّدت عجوز كبيرة في السن حينما كانت تطل من بيتها على أزقة المخيم الجديدة وقالت: شو بدنا فيهن الشوارع الواسعة؟!، مثال صغير آخر، في بعض البيوت القديمة في القرية، كان يتم صنع "شبّاك" على شكل دائرة أعلى المنزل، وكان أهل القرية يقولون: "بتدخّل هوا في الصيف، وإذا أجوا اليهود بنطخ عليهم".
بناءً على الحالة الحياتية اليومية يقرر الشعب كيف سيكون أسلوب حياته، مثلاً في رام الله التي تخدع نفسها، تبنى عمارات زُجاجيّة متناسية احتمال وقوع انتفاضة قد تكسر كلّ الزجاج هذا، على النقيض، في غزّة يتركّز الإبداع في هندسة العمارة حول صنع أنفاق أعمق وأطول وأكثر قدرةً على تحمّل القصف.
بدأت بكتابة يوميّاتي مُبكّراً، بداية 2005، لم تكن يوميّات بالمعنى الحرفي، لكنّها تؤرخ لفترة ما من حياتي، وتحمل بين ثناياها أحلامي وبعض أوهامي، بعد سنة تقريباً اكتشفت أن والدتي قرأت الكتاب، وقالت لي إنها تشعر بالقلق حول ما ورد فيه، وبعد هذه الحادثة، لم أكتب فيه حرفاً واحداً، خبّأت الكتاب في نفس المكان الذي عثرت عليه والدتي ولم أتخلّص منه، كنت قد ألصقت صوراً للشهداء، وهذا يكفي للاحتفاظ به.
مرَّت السنوات وأنا مُقتنع بسخف كتابة اليوميات، ففي النهاية، الهدف من الكتابة أن تكتب بكلّ شفافية، أما أن تكتب وتخفي أموراً؛ لأنّك تشك بأن شخصاً ما سيتطفل عليها، فهذا يدمّر الهدف من الكتابة، وعلى هذا مرّت السنوات، إلا أن طيف فتاة تكتب يوميّاتها جعلني أفقد توازني وأعود للكتابة غيرةً منها، بدأت الكتابة مرةً أخرى قبل ثمانية أشهر، لم أكتب يومياً؛ لأن الملل كان يمنعني في العادة، وأكثر جُملة قد تكررت: "يجب أن أكتب بأريحية يوماً ما، وليس على عجلةٍ من أمري كما أكتب الآن"، ولكن للأسف، لم يحدث هذا الأمر، ثمانية أشهر كانت كافية لأخرج ببعض الأفكار الأساسية، الأمور التي تستحق التذكر، يجب أن تبقى في الذاكرة، وتلك الأمور التي لا نستطيع تذكرها إلا باليوميات فهي صدقاً لا تستحقّ التذكّر، فلا فائدة من تدوينها على الأوراق.
أنت تكتب اليوميات؛ لأنّه فعلياً لا شيء يحدث في حياتك، أنا لا أتكلم عن كتابة اليوميات لتأريخ قضايا سياسية وتاريخية كما يكتب قادة هذا العالم، بل أتكلم عن إنسان طبيعي يكتب أحداث يومه الطبيعيّة، وما إن يبدأ بعض الأكشن في الدخول إلى حياتك، ستكتشف أن هذا الأكشن لا يُمكن أن يُكتب في اليوميّات، تبدأ بمحاولة وضع التورية، لكن ستملّ من هذا في النهاية وتترك الكتابة.
يُحكى قديماً أن هنالك قصراً عظيماً تمّ بناؤه، لكنّه يملك نقطة ضعفٍ واحدة لا يعلمها إلا صاحب القصر والمهندس، هذه النقطة عبارة عن طوبة، إذا تمت إزالتها سينهار القصر، مالك القصر قام بقتل المهندس ليحفظ القصر طويلاً، وحياتكَ يا صديقي مليئة بالطوب التي يمكنها أن تزلزل حياتك، والمهندس اللعين هذا قد يكون دفتر يوميّاتك.
ستقول لي إنك لا تضع الطوب في يوميّاتك؟ حسناً هذا يناقض الهدف الأساسي من كتابة اليوميّات، ستسألني الآن لماذا كلّ تلك المقدمة عن العمارة؟ حسناً يا صديقي، أنت عندما تكتب يوميّاتك تبدو تماماً كعمارة زجاجيّة في رام الله، تحاول عبثاً إنكار الواقع، كم تبدو مكشوفاً وعارياً يا صديقي.
الصورة فوق هي لحيّ فلسطيني، تماماً كما تبدو، عشوائية ومُربكة كما ينبغي، أما الصورة التي بالأسفل فهي لحَيّ آخر في ولاية كاليفورنيا الأميركية، تم بناؤه ليخدم أهداف المجتمع هناك، الانتقال من النقطة "أ" إلى النقطة "ب" بأسهل الطرق وبأسرع وقت ممكن، في حالة مجتمع يعيش تحت احتلال، ستجد أن الانتقال من نقطة إلى أخرى بأسرع وقت هو قضية ثانوية وليست ذات أهمية، هنالك نقطة أهم، كيف أبني حياً يدوّخ الاحتلال وأستطيع بناء منظومة مقاومة تستطيع توجيه الضربات بأكبر فاعلية ممكنة داخل هذا الحي.
هذه الكلمة هي التي جعلتني أترك كتابة اليوميات.. ففي النهاية exposed
i don't like to be exposed
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.