كتب فان غوغ في إحدى رسائله الشهيرة لأخيه تيو:
"كامن في زهرة عباد الشمس، أيها اللون الأصفر يا أنا"
ـ من منا لم يبهره حقل قمح ينتظر الحصاد في أوائل الصيف، بأصفره الممتد على امتداد النظر، أو حقل لأزهار عباد الشمس برؤوسها المنحنية في قيظ الظهيرة، في أيام الصيف الطويلة. إنه الأصفر هذا اللون الموغل في القدم، إنه برأيي يستحق أن يسمى لون الأجداد، أو جد الألوان، ولا أقصد هنا الانتقاص من قيمته، وألا يفهم من كلامي أنه لون لا يتقبل الجديد، بل أعني العكس تمامًا، أعني بالضبط أنه من أكثر الألوان أصالة، والأقدم من حيث الاستعمال. واليوم أقدم لكم في مدونتي خمس حقائق غريبة عن اللون الأصفر.
الأصفر عند المصريين.(لون المرأة)
منظر لاندماج آمون مع رع في مقبرة نفرتاري
كان هذا اللون واحدًا من أصل خمسة ألوان فقط، استخدمها الفنان المصري في عهد الدولة القديمة، وقد استعمل في أعمال التصوير، للدلالة على الشمس، والذهب، ولونت بشرة المرأة به. ومن أهم مصادر الحصول على اللون الأصفر في مصر القديمة:
ـ المغرة الصفراء
ـ تتواجد المغرة الصفراء في الطبيعة، في الأحجار الرملية.
ـ الأوربمنت
وقد أطلق عليه اسم (الأصفر الملكي) أو (الأصفر الذهبي) وقد وجد منه كيس، في مقبرة توت عنخ آمون.
الأصفر عند الآشوريين والبابليين (لون الملوك)
نحت بارز من قصر قورشباد – فن آشوري – القرن الثامن قبل الميلاد – متحف اللوفر – باريس
يمثل هذا اللون للآشوريين والبابليين (الضوء، والشمس، والألوهية) وكذلك هو رمزٌ للتعالي عند الملوك والحكام، وقد استخلصوه من أزهار الزعفران، حيث يتم سحق أزهار النبات المجففة، وينقع في الماء البارد، ليصبح محلولاً ذا لون أحمر تضاف إليه مادة قلوية لتحليله والحصول على صبغة ذات لون أصفر، كما أنهم قاموا باستخراج اللون الأصفر من نبات الكركم، والسماق.
الأصفر عند الفينيقيين
أبحدية رأس شمرا
الفينيقيون هم سكان البحر المتوسط، اشتهروا بالتجارة وصناعة السفن، ونشروا مدنهم ومستعمراتهم من كيليكيا حتى قرطاجة. وبلغوا ذروة مجدهم في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، حيث شملت اتصالاتهم البحرية، مناطق العالم القديم بأكمله. والفينيقيون هم أصحاب الأبجدية الأم؛ حيث يعود أقدم رقم دوّنت عليه الأبجدية إلى أوغاريت في سورية. حيث نسب الاختراع إلى / قدموس الفينيقي/ وكانت تكتب اللغة الفينيقية، كالعربية، من اليمين إلى اليسار. وكلمة "الفينيقيين" مرتبطة في ذهن أي منا باللون الأرجواني. وسيسأل سائلٌ: ما جدوى الحديث عن حضارة ملونة باللون الأرجواني في معرض الحديث عن اللون الأصفر؟! الإجابة تكمن في سببين: الأول هو أن المادة الخام لأشهر صباغ على مر التاريخ، كانت تستخرج من أصداف تسمى (موروكس) حيث كان ينضح منها سائل أصفر اللون هو المادة الأولية للصباغ.
أما السبب الثاني: فهو التسمية المتعارف عليها للبحر المتوسط عند الفينيقيين، وهي (البحر الأصفر).
أيها اللون الأصفر يا أنا
ولد فنسنت فان غوغ في (زندرت) في هولندا 30 مارس 1853، وكانت عائلته مرتبطة بالفن، فقد كان عماه تاجرين فنيين ولاحقًا أخوه تيو. وفي سن السادسة عشرة اصطحبه عمه ليعمل في نفس المجال، وبرع فيه لمدة، ثم انتقل لعمل آخر، وتنقل في أعمال عديدة حتى قرر أخيرًا، وهو في السابعة والعشرين من العمر أن يتفرغ لمزاولة العمل الفني، ويعتمد على أخيه تيو في الإنفاق عليه، وتنقل بين لندن وباريس، ليستقر أخيرًا في بلدة آرل بجنوب فرنسا، وهناك تخلى عن الألوان الكئيبة، ليستبدلها بأخرى مشرقة تعبر عن حالته العاطفية، فرسم لوحاته الشهيرة "عباد الشمس"، وهي مجموعة لوحات يطغى عليها اللون الأصفر.
فان غوغ – لوحة عباد الشمس
ومن أشهر لوحاته أيضًا لوحة "البيت الأصفر" وهي جزء من عمل فني مزدوج يضم لوحة البيت الأصفر وغرفة نوم في آرل. وقد أنجزها سنة 1888.
الأصفر القاتل
إنه ليس اسمًا لمرض فتاك أو وباء، بل إنه لون أصفر زاهٍ، لامع وبراق، موضوع في عصارة ألوان ببراءة مطلقة، وقد أطلق عليه اسم "الأصفر القاتل" لأنه المسؤول عن تخريب المئات من اللوحات عبر التاريخ. إنه "الأصفر الليموني"؛ بالإضافة لاحتوائه على مواد سامة، فهو يتأكسد عند تعرضه لضوء الشمس، فيتحول من أصفر زاهٍ، إلى لون بني قاتم، وهذا ما حدث مع العديد من الفنانين في نهاية القرن التاسع عشر ممن كانوا يستخدمون هذا اللون، ويظهر أثر هذا اللون في العديد من لوحات فان غوغ، حيث رغبة هذا الفنان في الحصول على اصفرار زاهٍ، جعله يكثر من استخدام هذا اللون، الذي كان السبب وراء بهتان العديد من لوحاته.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.