هل يعيد التاريخ نفسه؟
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر شهدت مصر محاولة متعمدة لإغراقها في الديون والسيطرة على اقتصادها وجعله تحت سيطرة الأجانب ورؤوس الأموال الأجنبية التي بدأت دخول الاقتصاد المصري تحت ستار البنوك الأجنبية وبيوت المال والرهن العقاري.
وبداية الأمر كان مع سياسة محمد علي باشا التي شجع الأجانب على المجيء إلى مصر لأنه كان يستعين بالخبراء والمهندسين وأصحاب الخبرة في التصنيع والإدارة بالإضافة إلى استعانته بالعملاء الأجانب لتصريف منتجاته في الأسواق الأوروبية.
ولكن عندما تولى عباس حلمي الأول الحكم فقد الأجانب التشجيع الذي كانوا يلقونه في عهد محمد علي وعمد عباس بسبب معاداته للغرب إلى وقف التغلغل الأجنبى في مصر، ولما كان عباس يخشى بصفة خاصة توطد النفوذ الفرنسي في مصر فقد طرد عدداً من الفرنسيين المشتغلين في المصانع والمعامل
ولكن بمجرد ذيوع نبأ وفاة عباس جاء إلى مصر من كل بقاع أوروبا (على حد وصف المؤرخين الأجانب) المحتالون والباحثون عن الذهب وتدفقوا بأعداد هائلة كما لو كانت مصر كاليفورنيا جديدة، خاصة أن الأجانب كانوا يتمتعون في مصر بالإعفاء من الضرائب بالإضافة إلى الحصانة القضائية، إذ لا يجوز توقيفهم ومساءلتهم أمام القضاء إلا بعد موافقة قناصل دولهم، وذلك تبعاً للامتيازات الأجنبية التي كانت تمنحها الدولة العثمانية للرعايا الأجانب في ولاياتها بمقتضى اتفاقيات دولية بينها وبين الدول الأوروبية.
وفي الفترة التي بين عامي 1857، حتى 1861 دخل مصر نحو 30 ألف أجنبي كل عام، وأدى إنشاء قناة السويس ورواج القطن المصري إلى ازدياد عدد النازحين إلى مصر حتى بلغوا 80 ألفاً في عام 1865.
وقد كان الوالي محمد سعيد باشا الذي خلف عباس حلمي مسؤولاً عن تدفق الأجانب إلى مصر بهذا الشكل بسبب حبه للأجانب وتساهله معهم وحرصه على إرضائهم، وكان عصره أول العصور التي وجدت فيها الحرية التجارية وترك الأجانب بعد أن جاؤوا إلى البلاد بأعداد كبيرة ترك لهم الحرية في إقامة الشركات وبيوت المال وبيوت الرهن العقاري.
وكان مجيء الأجانب الأساسي والرئيسي إلى مصر لاستغلال موارد الثروة فيها بعد أن حرمهم محمد علي منها، فقاموا بإنشاء البنوك وبيوت الرهن واقتصرت أعمال الإقراض أو تشغيل النقود بفائدة على طبقة صغيرة قامت في بدايتها في المدن الكبيرة في مصر، وتخصصت في إقراض المشروعات الحكومية وما يحتاج إليه الوالي من أموال ولما جاء إسماعيل إلى الحكم وكانت له حاجة كبيرة إلى المال لمشروعاته وإنفاقه وإسرافه المبالغ فيه، توسعت الحكومة والخديوي في الاقتراض من هذه البنوك وتوسعت هذه البنوك أيضاً في الانتشار داخل مصر.
مثل البنك المصري الإنكليزي الذي تأسس في سنة 1864 برأس مال 1.5 مليون جنيه، ويخضع للقوانين الإنكليزية والبنك الفرنسي المصري الذي تأسس تأسس سنة 1868 وبنك الكريدي ليونيه الذي فتح له فرعاً في سنة 1872 في الإسكندرية.
وأنشأت مجموعة أخرى من البنوك وبيوت الرهن العقاري لكي تشجع الفلاحين المصريين على الاقتراض منها برهن الأراضي الزراعية، وشجع ذلك بعض اليهود على إنشاء بنوك لهم تقوم بأعمال الإقراض مثل بنك قطاوي وأولاده.
ولقد قامت هذه البنوك وغيرها بتزويد الحكومة بما تحتاج إليه من المال وارتبطت مع الخارج بعلاقات مالية، خاصة مع البيوتات المالية في باريس ولندن.
وكانت الأسباب التي دعت حكام مصر إلى الاستدانة من هذه البنوك متعددة منها الإسراف الشديد للحكام المصريين والبذخ الذي كانوا يعيشون فيه بالإضافة إلى التعويضات التي كانت تدفع للأجانب الذين ازداد عددهم في هذه الفترة وتمتعوا بحصانات قضائية وامتيازات تجارية ومحاكم خاصة كانت تحكم لهم بالتعويضات عن قضايا وهمية أحياناً فإذا سرق شخص بسبب إهماله هو فإن الحكومة هي المخطئة بسبب عجزها عن المحافظة على النظام والأمن ثم يطالب بالتعويض وإذا أبحر شخص بقاربه وتسبب بإهماله في جنوحه فإن الحكومة هي المخطئة لأنها تركت رمالاً على الشاطئ في تلك الجهة ثم يطالب التعويض وهكذا.
وكان من هذه التعويضات أضخم تعويض عرفته الحكومات في العالم حتى ذلك التاريخ، عندما حكم إمبراطور فرنسا نابليون الثالث على الحكومة المصرية بدفع ما يقابل 3 ملايين و360 ألف جنيه كتعويض لشركة قناة السويس عندما حاولت الحكومة المصرية التخفيف من جحافة شروط امتياز القناة وقامت بتعديل الامتياز من طرف واحد، فلجأت الشركة إلى التحكيم وحكم بهذا التعويض الإمبراطور نابليون الثالث.
ولذلك كان أول قرض ضخم تم ترتيبه ما حصلت عليه الحكومة المصرية في يوليو/تموز 1862 وقيمته 3,293,000 واستمر سعيد باشا في الاقتراض حتى وصلت ديون مصر عند وفاته 11,160,000 جنيه.
وجاء خلفه الخديوي إسماعيل الذي كان مولعاً بالغرب ويحلم بأن يجعل مصر قطعة من أوروبا، وازداد تغلغل الأجانب في مصر في عهده وأخذ الكثير ممن وفدوا إلى مصر في استثمار أموالهم استناداً إلى الامتيازات الأجنبية التي كانت تعفيهم من دفع الضرائب وتمنحهم الحق في أن يحاكموا أمام محاكمهم الخاصة، ولقد ظهر في عهد إسماعيل وبشكل واضح تبعية مصر المالية والاقتصادية للأجانب، إذ إنهم جاءوا برؤوس أموال استثمروها في إنشاء المتاجر والبنوك والبيوت المالية والشركات.
وأخذ إسماعيل والحكومة المصرية في عقد القروض التي لا مبرر لها للإنفاق ببذخ على كل شيء وعلى من حوله من الرعايا الأجانب وعلى هداياه للسلطان العثماني من أجل الحصول على بعض المكاسب والمزايا في مركزه في الحكم بمصر والحصول على بعض الاستقلال الذي يميزه عن ولاة الدولة العثمانية مثل الحصول على لقب خديوي والسماح له بزيادة عدد الجيش وتغيير نظام الولاية من أكبر أفراد أسرة محمد علي إلى أكبر أبناء الوالي وأنفق في سبيل تحقيق ذلك ما يزيد على ثلاثة ملايين من الجنيهات، بالإضافة إلى دخوله في حروب الحبشة والتوسع في جنوب السودان حتى وصل للحبشة وهذه الحروب وصلت تكلفتها إلى ثلاثة ملايين جنيه.
واستمر إسماعيل في الاقتراض بغير حساب وإسراف حتى أنه أعد حفلاً لافتتاح قناة السويس في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1869 شهده أعظم ملوك أوروبا تكلف 4 ملايين جنيه وبذلك ظهر إسماعيل بمظهر الملك العظيم ولكن على حساب مصر والديون التي أرهقت ماليتها وسلمتها في النهاية لإنكلترا.
ويقدر مؤلف تاريخ مصر المالي ما خسرته مصر في إنشاء القناة ومن تعويضات، وما دفعته في إنشاء ترعة الإسماعيلية، ونفقات حفل قناة السويس وصل 400 مليون فرانك فرنسي أي ما يقدر 16 مليوناً و800 ألف جنيه مصري خسرتها مصر بسبب امتياز أو اتفاق إنشاء قناة السويس.
ونتيجة ذلك أنه في نهاية عصر إسماعيل وصلت الديون إلى أكثر من 126 مليون جنيه إنكليزي (126,354,360)، وللحقيقة فإن الأموال التي اقترضها إسماعيل أنفق منها الشيء الكثير على الأشغال العامة لتطوير الاقتصاد وإنشاء بعض الصناعات لأنه كان يحلم بجعل مصر مثل أوروبا، لكن الإنفاق اتسم بشكل عام بالبذخ والإسراف غير المبرر.
إفلاس مصر
في عام 1876 أفلست مصر وأصبحت ضحية سهلة للسيطرة الأجنبية، حيث إن الجاليات الأجنبية والبنوك الأجنبية اتصلت بحكوماتها في الخارج وكانت أكثر الأموال المقترضة من الأموال الإنكليزية والفرنسية وطالبت هذه الجاليات والبنوك تدخل حكوماتها لضمان الأموال التي اقترضتها الحكومة والخديوي، بالإضافة إلى الأموال التي اقترضها الفلاحون المصريون أنفسهم من بيوت الرهن العقاري التي غذت مصر في هذه الفترة.
توصيات التقارير واللجان الدولية بالإصلاح الاقتصادي والسياسي والديمقراطية
وكان الغطاء الآخر الذي تصاعد في ظله التدخل كان ترشيد الأداء الاقتصادي وضبط الموازنة وتطوير الإدارة، وبالتأكيد كانت الدول الأجنبية في مرحلة معينة تهدف إلى تحقيق ذلك، ولكن بأي معنى؟ أثبت التاريخ في هذا الموضوع، كما أثبت في قضية الديمقراطية، أن هذه الأساليب لم تكن مفاهيم مجردة أو محايدة، وإنما قصد بها منذ البداية خدمة أهداف محددة:
فتحطيم السلطة الاستبدادية كان يعني مشاركة ثم قيادة الدول الاستعمارية –وعلى رأسها إنكلترا– لهذه السلطة، وترشيد الأداء الاقتصادي كان يعني ترتيب الأوضاع على النحو الذي يضمن انتظام التبعية، ويضمن بالتالى انتظام انسياب الموارد المصرية إلى الخارج، أو تنظيم عملية النهب.
ولم تكن لدى السلطات المصرية وعلى رأسها الخديوي أي أوهام حول هذا الموضوع، وكان الخديوي إسماعيل على الدوام مهتماً بالاستعانة بالخبراء الأجانب في جميع مصالح الدولة، لكنه كان يصر دائماً على أن يكونوا مسؤولين أمامه ولا يتلقوا أوامرهم من حكوماتهم أو يقدموا إليها أية تقارير. على أن الحكومتين البريطانية والفرنسية كانتا تميلان إلى اعتبار هؤلاء الخبراء، ولو جزئياً على الأقل، عملاء لهما،
وكجزء من عملية الترشيد لم تقتصر مهمة الخبراء وهيئات الرقابة الأجنبية على حصر الموارد، ولم تقتصر المهمة على ضمان تدفق مدفوعات خدمة الدين، فقد كان طبيعياً أن تمتد المهمة إلى ضمان استمرار النهب في المدى البعيد، ويتطلب ذلك تحديد سقفٍ لما يمكن استنزافه، ولو أدى هذا إلى بعض التناقض مع المصالح الآنية لبعض الدائنين، عملاً بمقولة:
قليل دائم خير من كثير منقطع، وقد عبر عن هذا المعنى بوضوح فيفيان (القنصل البريطاني) حيث كتب إلى حكومته أنه (من الأهمية بمكان أن يتولى المراقبان – يقصد المراقب الإنكليزي والفرنسي في الرقابة الثنائية – حماية الفلاحين كما يحميان حملة السندات والمقرضين الأجانب أصحاب الديون، ومنع قتل الإوزة التي تبيض ذهباً).
وتقول التقديرات إن إجمالى الديون الخارجية كان يقل عن 100 مليون جنيه، ولم تنتفع مصر منها في شكل مشروعات بأكثر من 50 مليوناً في أحسن الأحوال، وذهب الباقي هباء في عمولات أو تبذير من جانب إسماعيل.. وبفضل الإدارة الرشيدة على يد الخبراء تقاضي الاستعمار مقابل 50 مليوناً هذه أرباح وفوائد وصل مجموعها إلى 250 مليون جنيه.
دخول الاحتلال الإنكليزي
سيطر الأجانب على مصر ونتيجة لتدهور الأوضاع وسوئها تدخلت الدولة العثمانية سنة 1879 وعزلت الخديوي إسماعيل لتسببه في سوء أحوال البلاد وعينت بدلاً منه ابنه محمد توفيق باشا خديوي لمصر.
ولم يطمئن الغرب ويكتفوا بما فعلوه في البلاد وسيطرتهم على أقواتها وتعيين رجالهم في الوزارة المصرية واستعمال العملاء مثل نوبار باشا على رئاسة مجلس النظار (الوزراء)، أرسلت إنكلترا جيوشها وأسطولها إلى مصر وأعلنت أنها غير مطمئنة على أموال رعاياها التي أقرضوها للحكومة المصرية وأن الجالية الأجنبية لا تأمن في ظل تردي الأوضاع في مصر خاصة بعد تذمر الضباط العرابيين اعتراضاً على التدخل في شؤون مصر وتدهور أوضاعها، ولما كانت هذا التذمر من الجيش لما لحق بالبلاد فإن هذه الحركات والثورات من قبل الجيش قد تعرّض سلامة الجاليات الأجنبية في مصر والأموال التي أقرضوها للحكومة المصرية للخطر.
وعلى ذلك فإن إنكلترا قد رأت أن تضمن حقوق وأموال هذه الجاليات وتأمن لهم ذلك بتواجدها في مصر للحيلولة دون قيام أي انقلاب أو حركة من الجيش المصري تؤثر على ضمان هذه الأموال أو تؤثر على سلامة رعاياها.
وهكذا دخل الاحتلال الإنكليزي مصر 1882 بسبب الديون الأجنبية وبحجة حماية أموال وممتلكات الرعايا الأجانب. لتدخل مصر مرحلة جديدة في تاريخها سيطر فيها الأجانب على مقدرات البلاد، وأصبحت مصر مزرعة القطن الشهيرة وفتحت الأسواق أمام استيراد منتجات الدول الغربية وعلى رأسها إنكلترا وشهدت الوقوف بحزم ضد أي محاولة للتنمية الصناعية الجادة.
وقد تعمد الاحتلال القضاء على كل ما من شأنه أن يعود ببعض التقدم الصناعي فأهملت الصناعة ولم تتخذ التدابير الكفيلة برقيها، بل ألغيت البعثات الصناعية إلى الخارج وفرضت في أبريل/نيسان عام 1901 ضريبة على جميع المصنوعات القطنية في مصر مقدارها 8%.
وأصبح النشاط الاقتصادي يتركز في يد العناصر الأجنبية التي تموّله وتشرف عليه وتنهض بشؤونه جميعاً حتى دخلت مصر القرن العشرين وهي ترضخ تحت الأموال الأجنبية، حيث كانت الشركات الأجنبية تمثل أكثر من 90% من حجم الاقتصاد المصرى في بداية القرن العشرين.
حيث تشير الإحصائيات في ذلك الوقت أن عدد الشركات التي تكونت في مصر حتى نهاية القرن التاسع عشر كان 78 شركة برأس مال يزيد على 21 مليون جنيه (21,167,575 جنيهاً) كان من هذه الشركات 45 شركة أجنبية برأس مال 19 مليون جنيه (19,108,893 جنيهاً)، أما عدد الشركات الباقية وعددها 33 شركة فهي شركات صغيرة رأس مالها محلي لا يتجاوز مليوني جنيه (2,058,682).
وبذلك تمت السيطرة تماماً على الاقتصاد المصري لصالح الرأسمالية الأجنبية عن طريق البنوك الأجنبية والقروض في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين والتي علق كثير من كتاب التاريخ الاقتصادي لمصر بأنها كانت أشبه بمؤامرة مرتبة لم تكن مصر تعي أبعادها في ذلك الوقت.
استفدت في إعداد هذه المقالة من المراجع التالية:
د عمر عبدالعزيز عمر – تاريخ مصر الحديث والمعاصر – دار المعرفة الجامعية 2002
د / نوال قاسم – تاريخ مصر الاقتصادي – الكتاب الجامعي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – 2009
د/ نجوى خشبة – التطور الاقتصادي الحديث والمعاصر في أوروبا ومصر – مطابع الدار الهندسية – القاهرة – دون تاريخ نشر
محمد رشدي – التطور الاقتصادي في مصر – الجزء الثاني – دار المعارف بمصر – 1972
عبدالرحمن الرافعي – عصر إسماعيل الجزء الأول والثاني – دار المعارف – الطبعة الرابعة 1987
د / محمد عبدالعزيز عجيمة، د/ محمد محروس إسماعيل – التطور الاقتصادي في أوروبا والعالم العربي – الناشر قسم الاقتصاد كلية التجارة جامعة الإسكندرية
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.