أصبت بصدمة كبيرة عندما صارحتني ابنتي بعد تسعة عشر عاماً أنها كانت تتعرض لتنمر منتظم في المدرسة وخارجها، كنت أشعر دائماً بأن هناك شيئاً ليس على ما يُرام، خاصة أنها كانت تصاب بكوابيس ليلية بشكل شبه يومي ولسنوات عدة، كانت تصحو ليلاً خلال الكابوس تبكي وتنتفض وتقول كلمات غير مفهومة، أبذل جهدي في تهدئتها؛ لتعود إلى نومها مرة أخرى..
كنت أسألها عن أي شيء يتعبها ويؤرقها، وأحاول استدراجها بالكلام بطريقة مباشرة وغير مباشرة، وأناور وألتفُّ يمنة ويسرة، ولكن دون فائدة. كانت تعتصم بالصمت، ولا تجيب على أي من أسئلتي، وكأنه لا شيء لديها لتقوله.
كنت حينها غضة، قليلة الخبرة والتجربة، ولأنها ابنتي البكر وقبلها لم يكن لدي دراية بعالم الأطفال العجيب، عدمت الوسيلة لأتواصل معها وأكسب ثقتها وأجعلها تميط اللثام عما تخفيه داخل عقلها البريء.. يحزن قلبي الآن وأنا أعلن هزيمتي بعد هذه السنوات الكثيرة.. ولكني أعود وأعترف بأن هذا هو الواقع المر الذي أضطر للكتابة عنه الآن حتى لا يقع غيري في الأخطاء ذاتها التي وقعت فيها.
في طفولتها، كنت ألاحظ أن طفلتي قليلة التركيز، نشطة طوال الوقت، طيبة حد السذاجة، مسالمة لدرجة لا توصف، والصفة الأخيرة بقيت ملاصقة لها حتى شبابها، كان حجمها يفوق بنات جيلها، وكنت أعتبر ذلك صفة حسنة تحميها من أن يتعدى عليها أحد. منذ دخولها المدرسة وحتى انتهائها منها، رافقتها ابنة أحد الأصدقاء، ولأن العلاقة التي تربطنا بتلك الأسرة كانت متينة، افترضنا أن علاقة الطفلتين هي كذلك. كانتا في المدرسة ذاتها، والصف ذاته، وتجلسان على الطاولة ذاتها.. وفي بعض الأيام كانت تلك الطفلة تحضر إلى بيتنا للعب مع ابنتي مساءً.. دون أن أدرك أن هناك خطباً ما يدور من وراء الكواليس.
كنت أجد تلك الطفلة هادئة في طباعها أكثر من ابنتي، ومتأنية في ردَّات فعلها وهو ما تفتقده ابنتي، وكانت تلك الطفلة تشيع طوال الوقت بأنها أكثر تفوقاً وتميزاً داخل الصف من ابنتي، وهو أيضاً ما لم ألقِ له بالاً لصغر سنهما، ولعدم أهمية العلامات والدرجات في تلك المرحلة، فلم أكلف نفسي عناء التأكد من كلام ابنة الأصدقاء، عدا عن أنها كانت تأتي وتفضح بعض المواقف المحرجة التي كانت ابنتي تتعرض لها في المدرسة والتي لم تخبرني ابنتي عنها، فكنت أؤنبها لأنها أخفت عني الأمر.
صدمتني ابنتي البكر بعد سنوات طويلة خلال مناقشتنا لمشكلة حدثت مع أخيها الصغير عندما فتحت صندوق ذكريات طفولتها، وشرعت تحدثني عن تلك المرحلة والتنمر الذي كانت تتعرض له ولسنوات طويلة والذي كنت فيه حاضرة غائبة، أخذت ابنتي البكر تقول:
"لم تعلمي يوماً أن ثراء (ابنة صديقنا) كانت تتنمر عليَّ وتكبتني دائماً، وتقنعني بأنها أفضل مني، وتعدُّ عليَّ خطواتي، وتحسب عليَّ سلوكياتي، فأي تصرف كنت أفعله مهما كان بسيطاً تنتقدني بحدة، وتتهمني بالغباء والوقاحة، حتى عندما كنت أسأل المعلمة سؤالاً عن الدرس الذي لم أفهم شرحها له، كانت ثراء تحدجني بنظرة مؤنبة تجعلني أتراجع مباشرة عن سؤالي وأخبر المعلمة أنني فهمت، عندما أضحك، عندما أقف… أي سلوك أفعله، كانت تقف لي بالمرصاد، وتهددني دائماً بأنها ستخبركم به.
والأدهى من ذلك أنها كانت تفرض عليَّ أن أخبرها بأي شيء أعتزم القيام به مسبقاً.. كانت تسخر من هواياتي وأحلامي وطموحاتها، وتبذل ما بوسعها لتسخيفها في نظري وإقناعي أنها لا تساوي شيئاً.. كنت أخاف أن أخبركم فلا تصدقوني، أو تخبروها بأنكم علمتم ما يدور بيننا. حتى عندما كبرنا، وبلغنا المرحلة الثانوية استمرت تمارس الدور نفسه معي، دور الوصي.
أتذكرين عندما قاطعتها في الثانوية العامة وأوقفت علاقتي معها إثر خلاف في المدرسة؟ لم أخبركم بالسبب حينها، ولم أوضح لكم بأنني مللتها، ومللت دور الضحية الذي تفرض عليّ أن أتقمصه منذ الصغر.. كنت أريد التحرر من سطوتها، أريد أن أشعر بأن لي كياناً مستقلاً أستطيع به شق دربي دون الحاجة لأوصياء.. أنا لم أعد صغيرة..
تصوري يا أمي أنها رسخت في نفسي أنني أفتقد إلى الجمال، فأنا سمينة (على حد قولها) شعري أجعد، بشرتي تميل إلى السمرة الخفيفة، وطويلة (ولا طول يخلو من هبل كما كانت تقول دائماً).. كانت نظرتي لنفسي طوال السنوات الماضية بأنني بشعة، غبية، شريرة.. ولم أكتشف الحقيقة وأعرف نقيض ذلك إلا بعد أن اجتزت السنة الأولى في كلية الهندسة، وكنت أفاجأ بشدة عندما أرى إعجاب الناس بنبل أخلاقي وجمالي!
لا أقول هذا الكلام الآن لأجعل منها شماعة أعلق عليها بعض أخطائي، ولكن هذا هو الواقع الذي عشته وحيدة لسنوات طويلة أقاسي المر دون أن أجد يداً تعينني وتسندي.. كنتم حينها تصدقوا أكاذيبها وتنساقوا معها، وإذا شكوت لكم اعتبرتم أنها لا تعدو عن كونها غيرة أطفال، رغم أن الحقيقة أكبر من ذلك.
تسألينني الآن يا أمي لماذا أتهرب منها، وأرفض الذهاب إلى بيتهم، أو التواصل معها بأية وسية؟ لأنني لا أريد أن يعود بيني وبينها أي نوع من العلاقات مهما كان.. أحمد ربي كثيراً أن الدراسة الجامعية قد فرَّقت بيننا".
لو كان الزمن يعود للوراء لتمنيت أن يرجع بي إلى بداية حياتي الزوجية لأربي ابنتي بطريقة مختلفة، فأجعل منها قوية، واثقة بنفسها، تضع حدوداً حول نفسها لا تسمح لأحد بأن يجتازها.. أعلِّمها كيف تعبِّر عن ذاتها، وتصرخ وبصوت مرتفع عند تعرضها لأي اختراق.
وبما أن الزمن لا يعود إلى الوراء، والجراح التي حدثت لا تلتئم دون ندب تخلِّفها وراءها وتذكرنا بأنه كان ها هنا جرح ذات يوم، ها أنا ذا أضمد جراحها الآن وأحاول أن أجعل الندبة التي تخلفها بأبهت وأصغر صورة ممكنة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.