نوستالجيا مواطن عادي

عربي بوست
تم النشر: 2018/07/31 الساعة 12:31 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2019/07/07 الساعة 11:32 بتوقيت غرينتش

يهدمون حياً عشوائياً بالياً؛ لتُباع الأرض لمستثمر ما ليحيلها منطقةً راقية. من وجهة نظر الحكومة استثمار مُربح، من وجهة نظر الشخص الذي تُطِل شُرفته على هذا الحيّ سيصبح المنظر أكثر راحةً للعين، من وجهة نظر سكان الحيّ المجاور سترتفع قيمة عقاراتهم، من وجهة نظرك كشخص لا يعنيه الأمر كثيراً هذا وضع أفضل للجميع، ومن وجهة نظر شخص أكثر اهتماماً بالأمر فلا بأس إذا كان سيتم تعويضهم.

أما بالنسبة لذلك الثلاثيني الذي وُلد وعاش حياته في هذا الحي فإنه على أقل تقدير فقد جزءاً من حياته، فقد ذكرياته التي تكمن في كل شِبر من هذا الحي البائس، ربما تقول: ولكنه لا يهتم لذلك، لم يذهب يوماً لزيارة مدرسته الابتدائية التي كرهها دوماً، ولم يعنِ له شيئاً مروره أمام شقته القديمة التي شهدت طفولته، نعم ويبدو الأمر حقيقياً جداً؛ لكنه كان يعلم أن هذه الذكريات موجودة في مكان ما؛ يعلم جيداً أنها ستبقى حية ما دام الحي موجوداً.

ليست مشكلة الحكومات الوحيدة أنها تُدمر الحاضر، لكنها حتى لا تترك لك الماضي لتنشغل به عن حاضرك المُدمَّر.

مكث غير قليل يبحث عن حُبّ طفولته على مواقع التواصل الاجتماعي، لا يعلم لماذا يفعل ذلك الآن وبعد كل تلك السنوات، وكأن الفكرة قد غُرِست شيطانياً في عقله الآن ولا يستطيع انتزاعها. بدأ يتعقب بحذرٍ تلك الخيوط من الأصدقاء القدامى والمعارف والمقربين منها، وجد أحدهم أخيراً.. اقتحم صفحته لاهثاً خلف تعليق هنا أو إعجاب هناك ليجد الاسم أخيراً، يتأكد أنه حسابها، قلبه يدقّ، يده ترتجف وكأنه سيفتح باباً ليجدها واقفة أمامه، هَوّن عليك ما هي إلا صفحتها على فيسبوك، ضغط أخيراً على الاسم لتنفتح الصفحة وينغلق في المقابل ذلك الباب الذي ظل موارباً لأعوام، لأن لقبها الذي يقع أسفل اسمها في أعلى صفحتها كان (أم إياد).

لا تحاول أبداً البحث عن حبيبة زمنك الغابر لأنك لن تجد أبداً ما يسرُّك.

لم يكن رحيل جده أمراً مؤلماً في حد ذاته لمجرد أنه لن يراه ثانيةً؛ ولو أن ذلك أمرٌ مُحزنٌ بكل تأكيد، وإنما ما آلمه أكثر أن حقبةً كاملةً من حياته (كان سعيداً فيها) قد خَفَتَ ذِكرُها الآن برحيل واحد من أهم الخيوط التي شاركت في نسجها، الآن سَتُغلق أبواب المنزل الذي شهد طفولته وصباه.. سَيُغطي الأثاث بقماش أبيض يعلوه الغبار.. سيصدأ كل ما هو قابل للصدأ.. وسيبقى ذلك المقعد وحيداً بلا أنيس. إذا كانت الجمادات لا تشعر فكيف لنا أن نفسر تلك الكآبة التي كست المكان. إذا كان للجمادات أن تموت فهذا المنزل قد قامت قيامته.

إننا حين نبكي الراحلين فإننا في حقيقة الأمر نبكي أنفسنا لا هُم.

تنفس الصعداء أخيراً، الآن يمكنه أن يمارس حياته بشكل طبيعي، حَجَرٌ كان يُطبِقُ علي صَدره قد انزاح بغير رَجعة بعد سنوات عانى فيها الأمَرّين، فقد عَلِم اليوم أنها رَحَلت للعيش في مدينة أخرى نظراً لظروف عمل والدها، رحلت وسيدفن برحيلها ذلك السر العظيم الذي خاف دوماً من افتضاحه؛ والذي كان يمكن أن يقضي على صورته المثالية التي حاول دوماً أن يحافظ عليها أمام الجميع. تلك القُبلة التي طبعها يوماً على خدها؛ لن يعرف أحد عنها شيئاً!

لا أعلم ما السر في أن الجميع لديه نقطةٌ سوداء (واحدة على الأقل) في ماضيه يخفيها عن الجميع ويخشى افتضاحها.

الثورة.. هذه الكلمة وحدها دون أن توضع في جملة مفيدة تُشعره بالمرارة.. تُصيبه بالاكتئاب لأيام.. تُبكيه.. يعلم أنها ستقضي عليه يوماً ما، لم يكن يعلم من قبل أن كلمة يمكن أن يكون لها صوتٌ ولونٌ ورائحة، تُذكر فيسمع أصوات طلقات.. صرخات.. هتافات واستغاثات وسُباب، أنفه لم تفارقه أبداً رائحة قنابل الدخان.. لم ينس أبداً رائحة الدم ولونه.. إن كان للسنوات الماضية لون يُمثّلها سيكون الأحمر بكل تأكيد، يتذكر الراحلون وما أدراك ما الراحلون.. يعتصر قلبه الألم كلما تذكرهم.. وهل نسيهم يوماً؟!

يمكنه أن يتناسى أي شيء.. سنواته الضائعه في التظاهرات والفعاليات والاجتماعات.. كلماته ونقاشاته الطويلة ومحاولاته لإقناع الجميع بجدوى ما يقومون به.. رسوبه في الجامعة لعامين.. إهماله لحبيبته التي أرهقها جفاؤه فرحلت عنه.. قسوته على والديه اللذين عارضا الثورة منذ البداية، يمكنه أن يغفر لنفسه كل ذلك لكن كيف يغفر لنفسه ما يشعر به من خذلان تجاه الراحلين.

هل هذا ما أرادوه؟ هل هذا ما ماتوا لأجله وفي سبيله؟ يعلم أنهم يشعرون بكل شيء ويعلمون كل شيء، يعلم أنهم يحتقروننا ويلعنوننا، يعلم أنهم يحتقرونه ويلعنونه،  لكنه يعلم أيضاً أنه مقيد اليدين والرجلين معصوب العينين. هل من الصواب أن يُلقي من هكذا حاله بنفسه في بحر موجه عالٍ وقوته غاشمة؛ ليموت ويتخلص من معاناته؟ أم ينتظر؛ لربما يأتي ذلك اليوم المنشود الذي لا يواجه فيه الموج وحيداً.. الموت وحيداً تبدو وحشته أكبر.. لكن ذلك اليوم لا يبدو له نهار قريب.. ولا بعيد؛ لا يعلم! جُلّ ما يقوم به هذه الأيام أنه يقاتل كي يمرر أيامه في انتظار موتٍ طبيعي صعب المنال.

لا تحلموا بعالمٍ سعيد.. فخلف كلّ قيصر يموت؛ قيصر جديد، وخلف كلّ ثائرٍ يموت.. أحلام بلا جدوى ودمعة سدى!

 

 

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمد عبدالحميد
باحث أكاديمي
تحميل المزيد