يحدث أن يأخذك التفكير في موضع ما بعيداً، حتى إنك لا تستطيع التعبير عنه، أو وصفه من شدة انبهارك من جمال ما ترى، ويصدف أن تجد شخصاً يشاطرك ذات الأفكار، لكن الأروع أن تجد الفكرة قد جعلها هذا الشخص كتاباً جميلاً لم تستطِع إلا أن تستمر في مطالعته حتى إكماله في يوم واحد.
حتى لا أطيل على القارئ بحيث أجعله في حيرة حول الموضوع الذي أتحدث عنه، فأما الموضوع الذي كنت أفكر فيه فهو جمال الجزائر وروعة شعب الجزائر، فهو جمال يمكن أن يحرك لسان البُكم ويسمع الحديث عنه الأصم والتوق إلى ما يعيد البصر إلى الكفيف.
كانت فكرة زيارة الجزائر تخطر في بالي منذ سنوات طويلة، كما أن أفكار هذه التدوينة تمر على عقلي كل يوم منذ غادرت الجزائر عائداً إلى بلدي قبل رمضان الماضي، ولأن هناك وقتاً مناسباً لكل شيء، فقد كان الصبر على موعد زيارة هذا البلد الجميل مثمراً، كنت قد قررت السفر أنا وصديقي المقرب للمرة الأولى مع بعضنا البعض، ولأنه قد خطط لها أن تكون رحلة جميلة، ألهمنا الله أن نختار الجزائر لمكان هذه الزيارة بشكل مفاجئ، قبل موعد الرحلة بشهر واحد، فقط بعد أن كنا قد فكرنا قبل ذلك في أن يكون مكان الرحلة تونس أو تركيا.
يأتي موعد الرحلة فنذهب إلى تونس، ومن هناك إلى الحدود الجزائرية براً، يرحب بنا حرس الحدود الجزائري، فيسأل عن أحوالنا وأحوال أهلنا في ليبيا ويتمنى لنا رحلة جميلة، ثم يساعدنا على الحصول على مركبة تقلّنا حتى مدينة عنابة، ومن هناك على الحدود الجزائرية – التونسية تنشرح صدورنا وتلمع عيوننا بما نراه من الاخضرار على جانبي الطريق، بحيرات في كل مكان، والجبال الشاهقة تحكي لك عن شموخ الشعب الجزائري وجماله وطيبته وهيبته، هناك في عنابة تلتقي الجبال مع البحار وجنات خضراء في كل مكان، ثم تحط بنا الرحلة في قسنطينة الأمير عبدالقادر الجزائري.
قسنطينة الجسور المعلقة والجبال الشاهقة والمدينة الحية، قسنطينة الكتاب والثقافة، قسنطينة التي أسرت قلوبنا حتى عشقناها حد الغيرة من أن نحب غيرها من المدن التي زرناها فيما بعد، فالعاصمة الجزائر بهيبة مقام الشهيد الذي يرتفع على أعناقها عالياً، وبشوارعها الجميلة كانت لها جاذبيتها بشكل خاص، هناك في المتحف الوطني لم أستطع إمساك دموعي، ولا أن أقف حائلاً أمام قشعريرة جسمي وأنا أقرأ عن الثورة الجزائرية وعن بطولات الجزائر، أقرأ عن تضحية شهيد، وأشاهد مسدسه أو نظارته أمامي مخلدة لذكراه فكيف لي بربكم أن لا تدمع عيوني؟
وأنا أقرأ التاريخ والتضحيات والجهاد والصبر، ولأن الرحلة لم تكن لتكتمل دون زيارة وهران، كان لنا ما أردنا بزيارة أشهر مدينة جزائرية على الإطلاق، ليس فقط لأن الشاب خالد غنى عنها أو لأن الشاب حسني الذي لا تكاد تخلو حافلة عمومية في ليبيا من أشرطته وأغانيه ينحدر منها، بل لأنني أظن أنها أكثر مدينة جزائرية تحظى بعشق وحب أهلها وأيضاً زوارها، فشوارعها رائعة، وطلتها بهية، وفي مبانيها القديمة العتيقة لا تملك إلا أن تجلس وسطها وتراقبها بصمت.
للقصة بقية تكمل جمال البلد، فهو ما كان ليكون بذلك الجمال لولا شعبه الكريم العظيم، شعب مجاهد طيب القلب شجاع لا يخشى في الله لومة لائم، الدين ظاهر على ملامح أهله، لا يهم من ترى أو كيف تراه للوهلة الأولى ترى ملبسه ومظهره فتظنه قد اتخذ قراره بهجر دينه، لكن أذان الصلاة يفضحك ويفضح تفكيرك حين تراه وغيره قد تجمعوا للصلاة في المسجد.
وصوت القرآن لا يكاد يغيب عن أي محل تجاري في شوارع الجزائري المختلفة، هكذا هم الجزائريون، طيبة تخجلك في نفسك، ولهم عشق غريب للشعب الليبي وأهله حتى ما تكاد تركب سيارة الأجرة أو دخلت إلى مطعم إلا واستحلفك بالله أن تعود معه للبيت ليكرم ضيافتك، وفي أضعف الأحوال يخبرك أنه سيتكفل بأجرتك أو طعامك؛ لأنك ليبي ضيف، حتى إنني لم أعد إلى ليبيا إلا وقد صدق كل ما سمعناه عن مدى حب الجزائريين لنا وحبنا لهم وتشابهنا في الصفات إلى حد غريب.
وبما أنني قد كنت أشرت في بداية تدوينتي إلى من شاركني نفس الأفكار، فقد كان السيد محمد صالح الصادق الذي في الواقع أنا من شاركته نفس الأفكار وليس العكس، فقد سبقني هذا المجاهد البطل حينما كتب كتاب سماه "الجزائر وليبيا ورحلة لا تنسى"، تحدث فيه عن مدى تشابه ليبيا والجزائر في الكثير من الصفات، وعن تجربته حينما كان مسؤولاً عن المكتب الإعلامي لجبهة التحرير الوطني بمقرها بطرابلس الليبية، وعن مدى دعم المملكة الليبية لهم، وعن حبه لليبيا التي تمنى زيارتها مرة أخرى، فكان له ما تمنى حينما زارها بعد الثورة الليبية سنة 2013 في زيارة رسمية لمركز المحفوظات الليبية.
وقد أسهب بارك الله فيه شعراً ونثراً ووصفاً وجمالاً في الشرح والتبيين في كتابه الذي اقتنيته صدفة من مكتبة بالجزائر العاصمة، فكان لنا أن تشارك ذات الاسم واسم الأب، ولكنه أكبر عمراً وقدراً وأكثر ثقافة وتجربة، فهو مؤلف بارع وقلم لا يجف، أدام الله عليه صحته.
هذه كانت تأملاتي في الرحلة وفي الكتاب، وقد عقدت العزم على العودة مرة أخرى إلى هذا البلد الجميل لو كتب الله لي العمر لأبقى فيه أكثر، ولأتعرف على المزيد من الشعب الجزائري الذي لا تشبع منه كلما تعرفت على شخص جديد، وهل ظمآن أهل الخير يشبع؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.