كنا نسخر دائماً من فستان زفاف أمي المتهالك الذي تحفظ له موقعاً في خزانتها، لونه الأبيض قد استحال رمادياً باهتاً، بيد أن الزمان قد غيّر ملامحه كما بدّل ملامح من ارتدته شابة ذات يوم. كانت أمي تخفي ملامح الضيق كلما أبدينا ضجرنا من حجمه الكبير في خزانة الملابس، وتبتلع سخريتنا من نسقه القديم و"موضته" البالية، وتضحك -بغير روح- على نكاتنا التي ننسجها حول أطرافه الممزقة وثناياه المتآكلة.
لم نكن نفهم ما الذي قد يعنيه فستان كهذا لسيدة جاوزت الأربعين من عمرها، لم يكن بوسع أطفال في العقد الثاني أن يتفهموا الدفء الذي تحسّه حين تحتضنه، ولا الذكرى التي تجده فيها.. ربما ارتدته مرة ونحن خارج البيت، وتأملته أمام المرآة وعلى وجهها ابتسامة لا يفهمها غيرها.. وربما لم تفعل، فقد ضاق الفستان الواسع على جسد صاحبته الشابة الصغيرة بعدما نال منها الزمان نصيباً.. لم نكن نستوعب هذا كله، ولا حجم الذكرى التي نسخر منها، أو قيمة تلك القماشة المتهالكة عند والدتنا المسكينة.
أدركتُ ذلك متأخراً حين جمعتني بأخي الأصغر غرفة واحدة، فصار يتأفف من حاسوبي القديم الذي أهتم به أكثر من نظيره الحديث صاحب الإمكانات الجبارة.. لا يفهم الشقيق لِم قد يُصر أخوه الأكبر على احتضان حاسوب يعمل بنظام تشغيل لم يعد مدعوماً من الأساس، ذاكرة من الماضي، خرقة بالية.. لا يدري الصغير ما يمثله هذا الصندوق المتهالك لأخيه الكبير، هو شريك رحلة، ونبع ذكريات، وصديق مراهقة، وصاحب كل تجربة جديدة، واقتحام مثير.. هو عندي أغلى من ذلك الغالي المجهز بأعلى تقنيات، وآخر تحديثات.
أتذكر الآن حين رفض والدي بشدة أن يحمل جهاز أندرويد أول ظهوره.. كان في كل مرة يبتدع حجة تختلف عن سابقتها في الشكل، وتوافقها في الكبرياء الذي تخرج به.. مرة يقول إن جهازه النوكيا القديم صاحب الأزرار البارزة أفضل وأكثر إنجازاً.. ومرة يقول إنه لا يحتاج من "إمكانات" الهاتف الجديد سوى أن "يقول آلو"، لا شيء أكثر! كنا نسخر من حججه، نتندر بأنه عدو للتقنية وخصيم للتطور.. لم نكن ندري أنه كان يرغب بشدة في أن يحمل هذا الجهاز الجديد المثير، لكنه لا يفهمه، لا يستوعب خوارقه، ولا يجد في استخدامه ذلك التمكن الذي درج على صناعته سنوات مع الجهاز القديم.. لم نكن نلحظ ضيقه من سخريتنا، من سخافتنا، من جرأتنا على فضح تستره واختراق كبريائه!
أدركتُ ذلك، كلما أعياني فهم منجز جديد، أو استيعاب تقنية محدثة، أو استخدام تطبيق مبتدع.. صرتُ أحمل الضيق ذاته حين يسخر صغير من قِدم هاتفي، أو برنامج الشات الوحيد الذي لا أحسن استخدام سواه.. صرت أشعر بما أخفاه عني والدي ذات يوم حين سخرنا من تشبثه بما وجد فيه القرار، وراحة الاختيار.
صرتُ أناجي نفسي كل ليلة على الفراش: أتدري ذلك الكهل الذي ارتخت يداه، وانحنى جسده، واستُهلكت روحه، وتشتت حضوره، وتجاوزته المنجزات، ولم يعد قادراً على مجاراة النوازل، ولا استيعاب الحادثات؟ رفقاً به.. رفقاً بذلك الذي استقام قوامك من حطامه! أتدري تلك المسكينة التي لم ينقطع بكاؤها منذ غادرتَها راغماً إلى حيث لا تعلم أنت ولا هي، تلك التي أكل الزمان من صحتها أكثر مما أكله من فستانها العتيق.. رفقاً بها، رفقاً بمن حرمتها حادثات الحياة من أن تزفّ ابنها إلى عروسه أو ترتب أثاث ابنتها يوم بنائها.
أتمنى لو يعود الزمان، فأكون باراً بوالدي كما ينبغي، أن أتجاوز تلك الإساءات، وأترفع عن ذلك العقوق الخفيّ.. أحتضن ضعفهما، وأعظّم من تجربتهما، وأحترم صندوق ذكرياتهما، وأحفظ كبرياءهما.. أما أنتَ صديقي فإذا كنت لا تزال قادراً على أن تستيقظ كل صباح على يد أمك الحانية، أو صوت والدك.. إن كنت لا تزال تمتلك جوهرتيك أو أحدهما.. فكن باراً، عطوفاً، محترماً، كريماً.. راعِ تجربتهما، وقدّس اختياراتهما، واستوعب ضعفهما، وكن لهما كما أراداك، لا كما كنت تريدهما أنت.. فهم أكرم وأحسن ألف مرة من هذين اللذين قد تخيلتَهما مثاليين في خاطرك.