في يونيو/حزيران 2015، أصدر القضاء الأميركي حكماً يقضي بتبرئة بنك صغير في نيويورك هو بنك "أباكوس" ومؤسِّسه وكبار المسؤولين فيه من جميع التهم الموجَّهة إليهم وعددها 240 تهمة، بعد محاكمة استغرقت 5 أشهر، وتحقيقات استمرت 5 سنوات.
عن قضية "أباكوس" أخرج ستيف جيمس (صاحب فيلم "الحياة نفسها" 2017، عن حياة الناقد السينمائي الأشهر روجر إيبرت) فيلماً وثائقياً جديداً هو "أباكوس: صغير جداً ويمكن سجنه-Abacus: Small Enough to Jail"، وهو عنوان يتلاعب بالكلمات التي ترددت من قبلُ في أعقاب الانهيار المالي الكبير لبورصة نيويورك في 2008 والذي نتجت عنه الأزمة الاقتصادية التي لا تزال تلقي بظلالها فوق النظام الاقتصادي الأوروبي.
ورغم مسؤولية المجموعات المالية الكبرى عن هذا الانهيار، وما كشف الستار عنه عن ضلوع الكثير من البنوك الكبرى بالولايات المتحدة في ممارسة أعمال غير قانونية تتعلق تحديداً بقروض شراء المساكن بأرقام مالية ضخمة، إلا أن أحد القائمين على هذه المجموعات والبنوك لم يقدَّم للمحاكمة، ولم يصدر ضد أي من البنوك الأميركية حُكم واحد (وهو موضوع تناوله بشكل تفصيلي فيلم آخر كتبت عنه تفصيلاً في هذا الموقع، وهو فيلم "الفاعل من الداخل-Inside Job").
لذلك، أصبح التعبير الساخر الذي استخدمته الصحافة وقتها هو too big to fail، أي: "كبير جداً بحيث لا يمكن إفشاله". فقد كان القبض على ومحاكمة المسؤولين عن التلاعبات المالية التي أدت إلى ذلك الانهيار الكبير كفيلين بانهيار الاقتصاد الأميركي، أي إن "المغامرة" بتطبيق القانون كانت أكبر من أن يتحملها النظام. ولكن المؤسسة القضائية الأميركية التي تمثل "النظام" كانت ترغب في تقديم "كبش فداء"؛ لكي تبدو أمام الرأي العام أنها لم تغضّ الطرف عن هذا النوع من الجرائم الكبرى.
الفيلم الوثائقي "أباكوس: صغير جداً ويمكن سجنه-Abacus: Small Enough to Jail"، من إخراج ستيف جيمس.
البنك الصغير
كان هناك بنك صغير في "الحي الصيني" بنيويورك، أسسه توماس سونغ عام 1984. وكان سونغ قد جاء مهاجراً من الصين إلى الولايات المتحدة عام 1951. هذا الرجل النحيل ذو الوجه الهادئ، أصر على أن ينال قسطاً رفيعاً من التعليم، وأنجب 4 بنات تخرجت 3 منهن وعملن في المحاماة، وإحداهن كانت تعمل (ولعلها ما زالت كذلك) بمكتب المدعي العام في نيويورك.
وتأثراً بالفيلم الأميركي الكلاسيكي الشهير "إنها حياة رائعة-It is a Wonderful Life" وبالشخصية التي يقوم بها في الفيلم جيمس ستيوارت، وبفكرة الصعود بدافع من "الحلم الأميركي"، أسس توماس سونغ مصرفاً صغيراً عائلياً تعمل فيه 3 من بناته، كان الهدف الأساسي منه تمويل أصحاب الأعمال الصغيرة في الحي الصيني: أصحاب الحوانيت التجارية والمطاعم وغير ذلك، بعد أن لمس كيف كانت البنوك الأميركية المعروفة ترفض تمويلهم لأنهم ينتمون إلى "الحي الصيني"؛ أي من تلك الأقلية التي يُنظر إليها بتشكك في الولايات المتحدة، وهو ما عكسه بوضوحٍ فيلم "عام التنين" (1984) للمخرج مايكل شيمينو.
كان الدافع إذاً مقاومة العنصرية. وموضوع العنصرية هو الموضوع الرئيسي الذي يصطبغ به فيلم "أباكوس: صغير جداً ويمكن سجنه". فمن البداية لا يتظاهر الفيلم بالحياد بين الطرفين، أي الأسرة الصينية البسيطة التي تملك وتدير البنك، والمؤسسة الرسمية التي يمثلها في الفيلم المدعي العام في نيويورك سيروس فانس الصغير (ابن وزير الخارجية في حكومة الرئيس كارتر) وممثلة الادعاء.
والاثنان يظهران في الفيلم وهما يتحدثان ويبرران التعامل المهين مع توماس وأسرته، نافيَين أي شبهة للدوافع العنصرية. ولكن الرد المباشر العملي يأتي عندما نشاهد في مشهد صادم كيف يُعتقل 19 شخصاً من بينهم بنات سونغ (باستثناء تلك التي تعمل في مكتب المدعي العام والتي تم استبعادها من القضية)، وكيف يتم ربط معاصم الجميع معاً في سلسلة حديدية وسوقهم داخل أروقة غامضة كما لو كانوا قطيعاً من الماشية، الأمر الذي يعلق عليه أحد الصحافيين في الفيلم بقوله إنه لم يسبق أن تعرَّض له الأميركيون من أصول إفريقية، ولا أي أقلية في الولايات المتحدة من قبل، وذلك على الرغم من أن بعض هؤلاء كانوا قد أُطلِق سراحهم بكفالة. وهي مخالفة قانونية فضلاً عما فيها من إهانة جارحة تستدعيها إلى ذاكرتها، إحدى بنات سونغ وهي تبكي بحرارة أمام الكاميرا.
يجسد الفيلم حالة التضامن بين الصينيين في الحي، بعد القبض على توماس سونغ وأسرته ثم مقاضاتهم، فأصبحت القضية تمثل نقطة سوداء في تاريخ العلاقة بين الأقلية الصينية والمؤسسة الأميركية.
في الحي الصيني
يعالج المخرج ستيف جيمس موضوعه من خلال أسلوب يجمع بين العرض والتحليل والتعليق الذي يأتي من داخل المادة نفسها، من خلال المقابلات المصورة مع أفراد الأسرة وممثلي الادعاء؛ بل واثنين من المحلفين الذين كانوا طرفاً في القضية التي شغلت الرأي العام، واختتمت في يونيو/حزيران 2015 ببراءة الجميع من التهم بعد أن كلفت الدولة 10 ملايين دولار من أموال دافعي الضرائب من دون أن يكون لها أساس من الأصل.
كما يستخدم الكثير من مواد الأرشيف، سواء من النشرات الإخبارية التلفزيونية، أو لقطات قديمة للحي الصيني، ليعرض لتاريخه ودوره الكبير في خدمة الأقلية الصينية بنيويورك، ويصور كيف يميل الصينيون بطبعهم إلى التعامل بالمال السائل، وليس بالبطاقات المصرفية مثلاً، كما أنهم يتشككون كثيراً في السلطات؛ لكون معظمهم جاءوا أصلاً كمهاجرين من مجتمع بوليسي مغلق بالصين.
لكن أهم ما يقدمه الفيلم في هذا السياق، يتعلق بتصوير التعاطف والتضامن بين الصينيين في الحي، وكيف جرحت مشاعرهم عند القبض على توماس سونغ وأسرته ثم مقاضاتهم، فأصبحت القضية تمثل نقطة سوداء في تاريخ العلاقة بين الأقلية الصينية والمؤسسة الأميركية بشكل عام. هناك مقابلات عديدة سريعة مقتضبة مع أصحاب الحوانيت بالحي، وهناك تصوير لنشاط الجالية في أنديتهم، ولما عُقد من اجتماعات للإعلان عن تضامنهم والتأييد للرجل الذي عرفوه طويلاً وكان دائماً يقف إلى جانبهم وهو توماس سونغ.
يتحدث الفيلم عن الانهيار المالي الكبير لبورصة نيويورك في 2008 والذي نتجت عنه الأزمة الاقتصادية، وما كشفه الستار عنه عن ضلوع الكثير من البنوك الكبرى بالولايات المتحدة في ممارسة أعمال غير قانونية.
الشاهد المذنب
ولكن، من أين جاء الخلل أصلاً؟ يكشف الفيلم أن هناك موظفاً نجح في الالتحاق بالعمل في البنك وظل 5 سنوات يمارس نشاطاً غير قانوني ويتلاعب بقروض الإسكان الوهمية التي كان يمنحها ويزوّر في الوثائق، لكن المفارقة أن إحدى بنات سونغ وهي المديرة المسؤولة عن قروض الإسكان في البنك، هي من كشف تلاعباته، وقد حملت جميع الوثائق التي تدينه وتبلغ آلاف الصفحات، إلى السلطات وأبلغت عنه. وقد تم طرده من العمل بالبنك قبل ذلك، وشهد الجميع ضده. ولكن الغريب أن السلطات -كما يعرض الفيلم من خلال إعادة تصوير المحاكمة باستخدام الرسوم- حاولت استخدامه أو استخدمته بالفعل، كـ"شاهد ملك" ضد أسرة سونغ، رغم معرفتها بإدانته ورغم اعترافه بارتكاب معظم المخالفات المنسوبة إليه.
يقول الفيلم إنه قد تم تصحيح جميع الأوضاع المخالفة التي خلقتها ممارسات هذا الموظف، فقد أُعيدت الأموال التي أُخذت من المدخرين من دون وجه حق، واستمرت الودائع الأخرى في النمو من دون عائق. ورغم ذلك، تقول ممثلة الادعاء في الفيلم إن قرار المحكمة الذي يقضي بأن المتهمين "غير مذنبين" ليس معناه أنهم "أبرياء"، ثم يظهر سيروس فانس ليشرح كيف أنك عندما تسرق 5 دولارات من جيب شخص ما ثم تعيدها إليه، فإن هذه تظل جريمة. في حين ترد عليه إحدى بنات سونغ بذكاء بالغ، فتقول إنك عندما تأخذ 5 دولارات ثم تضيف إليها نسبة 3.5% وتردها إليه 10 دولارات فكيف يمكنك أن تسمي هذا جريمة؟!
الرأي السائد الذي يتردد في الفيلم أن كل ما يمكن أن يؤخذ على إدارة البنك أنهم لم يكتشفوا ما وقع من تجاوزات من قِبل ذلك الموظف الفاسد سوى بعد مرور وقت طويل وبعد أن كان الضرر قد أصاب الكثيرين. لكن هذا الاتهام لم يكن يستدعي تحويل 19 شخصاً إلى المحاكمة بتهمة ارتكاب 240 جناية وجنحة. والغريب أن الموظف المسؤول عن كل تلك التجاوزات لم يحصل سوى على عقوبة بالسجن لمدة 6 أشهر فقط، ثم أُفرج عنه بسبب تعاونه مع التحقيقات!
أسس توماس سونغ بنكاً صغيراً في "الحي الصيني" في نيويورك، عام 1984. وكان سونغ قد جاء مهاجراً من الصين إلى الولايات المتحدة عام 1951.
تضامن الأسرة
من أفضل مشاهد الفيلم المشاهد التي تُظهر تضامن الأسرة الصينية ووقوفها بعضها مع بعض، خاصة الأم العجوز التي تخشى على زوجها أن يسقط مريضاً بتأثير تلك الأزمة التي خيمت على حياته مدة 5 سنوات، وكيف كانت تتصل ببناتها لتطمئن عليه، كيف يلتقي أفراد الأسرة في أحد مطاعم الحي الصيني، يتناولون الطعام معاً، ويتبادلون القفشات والنكات والأحاديث الحميمية عن الأفلام وعن أنواع الطعام المختلفة.
الفيلم يسير في إيقاع سريع ينتقل من الخارج، من شوارع الحي الصيني ومانهاتن بواجهات البنوك الكبرى التي تحتل ناطحات السحاب العملاقة المخيفة، إلى مبنى بنك أباكوس المتواضع، الذي لا تزيد عدد فروعه على 6. ومن الأسرة إلى الادعاء، ومن الشهود والصحافيين الذين تابعوا القضية إلى الأب المؤسس وأصدقائه من أصحاب الحِرف والتجار في الحي. وهو يلخص هذا الإحساس الحميمي البسيط بالآخرين فيتساءل في استنكار: "عندما يأتي لي رجل أعرفه جيداً، وأتناول الطعام في المطعم الذي يمتلكه، ليطلب قرضاً لتوسيع نشاطه أو تجديد مطعمه، فكيف لي أن أطالبه بأوراق ووثائق وأنا أعرفه منذ عشرات السنين وأعرف ماذا يفعل!".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.