في الفصل الدراسي الأول من سنتي الدراسية الأولى بالماجستير عام 2016، كنت برفقة أصدقائي الخليجيين في إسطنبول، وكنت أتسامر معهم وأحدثهم عن تخصص دراستي في الإعلام الجديد وأهميته ومدى تأثيره، وعن الأفكار التي تدور برأسي لموضوع الرسالة، فقال أحدهم: إن الاتصال الذي حدث بين المذيعة التركية بقناة "سي إن إن ترك" هاندا فرات، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان ليلة الانقلاب جاء في وقته، وكان السبب في إفشال الانقلاب.
من هنا أتتني فكرة رسالة الماجستير، الذي تخرجت منها للتو بعنوان: "استخدام الإعلام الرقمي في إحباط انقلاب 15 تموز (يوليو) في تركيا"، صحيح أن الموضوع حديث وذو قيمة، كما وصفه جُل مَن عرف، لكن رحلة البحث فيه أكاديمياً كانت غاية في الصعوبة، سواء على صعيد الجامعة أو الوصول للصحافيين العرب الأتراك، وعلى رأسهم الصحافية هاندا فرات.
خلال عملية البحث والتقصي في الموضوع لتوثيقه أكاديمياً، لم تكن العملية سهلة، خاصة أن البلاد تعيش في حالة صعبة، وكوني غير تركي وأبحث في موضوع حساس، وقد أجرت البلاد استفتاء على تعديلات دستورية جديدة عام 2017، فقد كان الكثير من الأتراك، سواء الصحافيون أو الأكاديميون، يتجنبون الحديث في الموضوع، وكلٌّ له سببه.
العديد من المشاكل والأسئلة الصعبة واجهتني خلال عملية البحث، كان من ضمنها أن ما حدث لم يكن انقلاباً حقيقياً وهذا طرحه عدة صحافيين، فكان ردي ما أدلتكم؟ وهل أكتب ما تقولون وأضع اسمكم عليه؟ فكان الرفض هو الجواب، وليس هناك دليل قوي بل مجرد آراء وتحليلات سياسية شخصية.
والجدير بالذكر أن استخدام الإعلام الرقمي كان له سهم بإفشال الانقلاب بسرعة، لكن لم يكن السبب الوحيد، بل عدة أسباب مترابطة ومتشابكة مع بعضها. وهنا نقطة نظام، صحيح أن أول ظهور للرئيس أردوغان كان مع الصحافية هاندا فرات، لكن كانت وكالة الأناضول الرسمية هي أول من وصل للرئيس أردوغان في مكان إجازته بمرمريس في محافظة موغلا التركية جنوب البلاد على ساحل البحر المتوسط. وقد قام مراسلها هناك بتسجيل مقطع فيديو صغير للرئيس تمهيداً لبثه على موقع الوكالة.
لكن هنا كانت العناية الإلهية بأن يحدث خطأ تقني ببرنامج الواتس أب، ولا يتمكن الصحافي من إرسال المقطع، بتلك اللحظة لم يكن ينفع أن يخرج الرئيس بمقطع مسجل على الإنترنت؛ لأن الليلة كانت حساسة جداً، وكانت أسرع وأبطأ ليلة مرت على تركيا والمنطقة بذاك الوقت، حبس الجميع الأنفاس، وانتظر العالم كله بالمعنى الحرفي نتيجة الانقلاب.
كان لا بد من خروج الرئيس بـ"لايف" مباشر ليتحدث للجماهير، ليؤكد أنه ليس مختطفاً أو محتجزاً ولم يتم اغتياله في تلك اللحظة، بُعيد محاولة وكالة الأناضول التي باءت بالفشل في إجراء لقاء مع الرئيس، استطاعت المذيعة الشهيرة هاندا فرات، أن تصل لهاتف مدير مكتب الرئيس حسن دوغان وتجري مكالمة عبر تطبيق فيس تايم الخاص بهواتف الآيفون، على الهواء مباشرة، في خطوة كانت العناية الإلهية هي الراعي لها.
أيضاً تجلت العناية الإلهية بأن يغادر الرئيس الفندق قبل وصول الانقلابيين إليه بنصف ساعة، وبالتالي فشلوا في الوصول إليه شخصياً الأمر الذي لو صار لحدث ما كانوا يريدونه وما لا يحمد عقباه، على صعيد الداخل التركي ومن يؤيد أردوغان ويريد لإنجازاته أن تستمر.
فقد أرادوا الوصول إليه واعتقاله لاقتياده إلى حبل المشنقة كما فعل أسلافهم مع سابقه عدنان مندريس، لكنهم فشلوا، وأُودعوا هم جميعاً السجن. أراد الانقلابيون أن يقوموا بالبدء بإجراءات الانقلاب قُبيل الفجر، لكن انكشاف مخططهم من قبَل المخابرات التركية جعلهم يبكّرون بست ساعات، وكان الغباء الذي هو جندي إلهي عنصراَ أساسياً في إدارتهم لمُخططهم.
أيضاً، لم يكن يدور ببال من قام بالانقلاب أن أردوغان سيخرج على شاشة لم تكن مؤيدة أو تابعة أو مقربة من الحكومة، فقناة "سي إن إن ترك" كانت قناة معارضة قبل الانقلاب، وصارت محايدة فيما بعد، أيضاً خروج 8 ملايين تركي لحظة دعوة الرئيس لهم للخروج للشوارع وحماية شرعيته والديمقراطية التي اختاروها بأيديهم، هذا على صعيد القوة الناعمة.
أما على صعيد القوة الخشنة، فكانت المواجهة الحقيقية بين مؤيدي الرئيس من الأجهزة الأمنية سواء في الشرطة أو المخابرات، والذين تلقوا أوامر بالقتال حتى الموت، أو حرس الرئاسة الذي كانوا حصن أردوغان المنيع أمام أي محاولة للوصول لشخصه. أيضاً دور الإعلام المعارض والمعارضة نفسها، برفض الانقلاب والوقوف ضده لإفشاله.
فالعناية الإلهية لها دور في مجرى الأمور، خاصة مع أولئك الذي يسيرون على سُنن الكون في الحكم، ويعرفون كيف يخططون ويُديرون الدول، ويلعبون السياسة، فأردوغان بدأ صعوده للسلطة في تسعينيات القرن الماضي برئاسة بلدية إسطنبول، وقام بتغيير وجه المدينة من مكبّ للنفايات بالتسعينيات، إلى واحدة من أجمل الواجهات السياحية بالعالم.
ثم انتقل الرجل بعد عدة سنوات ليصبح رئيساً للوزراء، بعد نجاحه في رئاسة بلدية إسطنبول وتحقيقه الكثير من الإنجازات، فالرجل صاحب مشروع تركيا القومية، التي ينبغي أن تصبح واحدة من الاقتصادات العشرة الأولى بالعالم، وهذا ما يزعج العالم الأميركي والأوروبي كون تركيا بلداً مسلماً يدين 99% تقريباً من سكانها بالإسلام.
فأولئك لا يريدون لدولة مسلمة أن تكون قوية بينهم وتكون مستقلة وصاحبة قرار، يريدون من دول العالم الإسلامي أن تكون لاعب احتياط وتابعة لهم؛ لهذا أرادوا بأردوغان صاحب مشروع تركيا القوية الذي ينادي بمقعد دائم بمجلس الأمن، كيداً وانقلاباً يطيح به وبسُلطته ليدمر كل ما فعله الرجل من إنجازات والعودة ببلاده إلى عصر الثمانينات مرة أخرى، رغم أنه يأتي بانتخابات ديمقراطية كما يريد الغرب ونسب لا تقل عن 52% أو ما يشابهها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.