أستغرب جداً من أولئك الذين ينادون بفصل الرياضة عن السياسة.
كيف لهم أن يذهبوا ذلك المذهب، فالسياسة هي البحث عن طريقة للعيش والحياة، والرياضة هي بحث عن الترفيه والمتعة.
وكيف يتأتَّى لنا أن نلهو ونتمتع بعيداً عن حياتنا وقضاياها وطرائقها.
لا يتأتى الترفيه ولا تتأتى المتعة ابتداءً إلا بحياة مستقرة، تسير في طريقها المرسوم دون منغصات قاهرة، ومنعطفات كاسرة.
ولو كان الترفيه مع حياة قاسية بئيسة، فهو أشبه حينها بالخمر، عندما تُذهب عقولَ الناس، لينسوا للحظات ما هم فيه.
يشبه الترفيه حينها الخمر، ويشبه حكمه حكمها، فلا هي تحلّ، ولا هو كذلك.
ليس من المنطقي ولا المعقول أن تهتف الشعوب لفرق بلادها في كرة القدم وقد بُحَّت أصواتُها من الصراخ مِن شدة وطأة أنظمة الحكم عليها.
ولا من المنطقي والمعقول أن تغنّي وترقص وتزغرد فرحاً بفوز فرقها في مباراة، وهي قبل المباراة وبعدها تبكي على حالها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي باتت تعيشه.
ولا من المنطقي والمعقول أن تغفل عن أن فوز فريقها سيُحسب لتلك الأنظمة القمعية المتسلِّطة التي تعيش في ظلِّها، وسيساعد في غسل وجوهها الملطَّخة بالاستبداد والعمالة، ولو إلى حين.
ولا من المنطقي والمعقول أن تنسى الضرب الغشيم من الأنظمة لها، لمجرد ضربة رائعة للكرة من قدم لاعب.
ولا من المنطقي والمعقول أن تنشغل بمراوغة اللاعبين لبعضهم عن مراوغة الأنظمة لها، في إعطائها حقوقها وإطلاق حريتها.
مِن حقِّ المخلصين لأوطانهم في بلداننا أن يتمنَّوا هزيمة فرقهم في المسابقات الدولية، وهؤلاء في الحقيقة هم الأكثر إخلاصاً لأوطانهم مِن أولئك الذين يتمنّون انتصار فرقهم، وهم الأكثر إدراكاً للأبعاد، والأكثر فَهماً لها منهم.
وإن الأنظمة الديكتاتورية المتسلِّطة الفاسدة لَتَرى في مثل هذه المسابقات الرياضية وغيرها من وسائل الترفيه أكبرَ مُعين لها على تغييب وعي الشعوب وإدراكها، وتخديرها وإلهائها، ولو إلى حين.
وانظروا إلى هذه الأنظمة التي سارعت إلى إنشاء هيئات للترفيه، بل ووزارات كذلك، لتصرف المليارات من أجلها، في الوقت الذي يأكل فيه البعضُ من صناديق القمامة.
لا يغيّب العقل عن قضاياه الحياتية الكبيرة مثل الترفيه، والترفيه عموماً ليس مذموماً، ولا محرَّماً؛ بل هو مشروع ومسنون، إلا أن يكون مؤامرةً من أنظمة فاسدة متسلِّطة لإلهاء الشعوب.
قديماً كان يقول لنا بعضُ الدعاة ونحن شباب: إن الأعداء في الغرب قد اخترعوا السينما والكرة وغيرهما، من أجل أن يغيِّبوا شبابَ المسلمين عن دينهم وواقعهم وتاريخهم.
وهو كلام مبالغ فيه قطعاً، فالغرب اخترع وسائل الترفيه هذه من أجله هو، فالترفيه عند الغرب من أهم أسس حياته، وذلك منذ تاريخه الأول، في عصوره الأولى.
ولا يمنع ذلك من محاولته نشرَ هذه الوسائل بعد ذلك في بلاد المسلمين للإلهاء؛ بل إن الأنظمة العميلة له في بلاد المسلمين لَتُساعِده على ذلك.
أذهبُ مع الرفاق إلى المقهى لمشاهدة مباريات كأس العالم، فأتمنَّى الهزيمة لبلداننا التي غرِقَت في الديكتاتورية والفساد والعمالة حتى شحمتي أذنيها.
لم أستطع تشجيعَ أي منتخب عربي إلا المنتخب التونسي؛ لأنه المنتخب الذي يمثل البلد العربي الوحيد الذي يحاول أن يسير ناحية الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.
الثورة العربية في الربيع العربي بدأت من تونس، ثم فشِلت في كلِّ أرض مرَّت عليها إلا في تونس، فما زالت تصارعُ هناك لتنجح، وما زال الأمل والرجاء فيها.
ومع الأسف فقد قدَّمت الفرق العربية أسوأ عروض رياضية، بل كانت أول الفرق مغادرةً للمسابقة.
وهذا هو الطبيعي والمنتظر، فلا يتخيّل أحد أن تُخرِج لنا أنظمةٌ فاشلة في كل شيء نجاحاً في أي شيء.
الرياضة ترفيه، والترفيه جزء من الحياة، وانعكاس كبير للجدية والإنجاز في واقع الناس.
ومَن لا إنجاز له من السَّفه أن يبحث عن الترفيه.
وإنَّ الترفيه حينها سيكون كما الخمر، يغيِّب العقول كما تغيِّب، ولذلك فحكمه كحكمها.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.