من عادات الصيام التي نرددها ولا نفقه معناها قول أحدهم إن الصيام مفروض كي نشعر بجوع الفقير.. وهذا قولُ لا صحة له. فكثيراً ما يتحدث رجال الدين والدعاة بصوت عالٍ في المنابر والبرامج المدعومة من الشركات التجارية عن شهر الصوم والاعتكاف والزهد، شهر الإحساس بالفقراء ومجتمع المجاعات، وعن تلمّس الغني تلك المجاعة من خلال صيامه، فيشعر بكل وجدانه بالفقير الجائع المنسيّ تحت أشعة الشمس الحارقة وعلى الأرض الجافة القاحلة.
والحقيقة هي أن الفقير لا يلزمه صوم الغني، بل يلزمه صدقته وزكاته، الصوم هنا مجرد تمثيلية تنتهي بالإفطار، وبالتالي حين يفطر الغني ما لذّ وطاب يكون قد اعتقد أنه حقق مراد الله "المزعوم" أن صومه كان ليشعر فقط بجوع الفقراء!
كيف يستقيم حال من يُفطر على اللحم المشوي والمقلي بمن يُفطر على الجُبن والخبز؟! سيقولون الأهم أن يشعر بجوع الفقير. طيب.. كسبنا الصلاة على النبي.
إذا كان الهدف هو الشعور بجوع الفقراء فلا حاجة للفقير لأن يصوم.. هو كدا كدا صايم! بينما الصيام واجب على الجميع فقراء وأغنياء.
على نفس المنطق لماذا لا نجعل شهراً نشعر فيه بالعبودية التي يعاني منها الفقير، هؤلاء رجال أعمال وأصحاب رؤوس أموال يستعبدون الفقير، فأين شعور ذلك الاستعباد قياساً على الصيام؟!
الهدف من الصيام هو "تقوى الله" وليس "الشعور بالفقير"، والدليل قوله تعالى: "كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون". فالصيام فيه إحباطٌ لشتى أنواع الغرائز والشهوات، وفرضه دورياً هو تدريب الإنسان على الطاعة وإحياء خلق التواضع في نفسه، وهذا لا علاقة له بالشعور بالفقير؛ لأن من الفقراء طواغيت وجبابرة لو امتلك أحدهم القوة سيُفسد في الأرض، زيارة واحدة من حضرتك لأي منطقة عشوائية في مصر ربما تغير نظرتك للفقراء، ومع ذلك فالأمر بالإحسان إليهم واضح، ومساعدتهم على الشعور بإنسانيتهم فرض.
أحياناً يدفعنا التعلق بالأشياء إلى الحماسة لها، هذا القول جاء من متحمس للصيام لم يَدرِ عواقب كلمته التي تعزز من الطبقية في المجتمع، الفقير والغني أسوياء أمام الله، الدين والصيام ليسا بحاجة إلى متحمس يزعم أن فرضاً مهما -كالصيام- هو فقط من أجل الشعور بالفقير، وكأن المسألة اجتماعية لا علاقة لها بدين ولا سلوك ولا أخلاق، فالغني والفقير فيهما الجاهل والعالم، الشجاع والجبان، الحليم والسفيه، العفيف والأحمق، البخيل والكريم، الظالم والمظلوم.. كيف ننسى هذا التنوع ثم نتذكر فقط حالة الفقير الاجتماعية ونزعم أن الصيام شرع فقط لأجل الشعور بجوعه؟! هذا تسطيح.
دولة مثل سويسرا معدل الفقر فيها منخفض جداً، كيف نصف صيام مسلمي شعبها وهم لا يرون الفقير إلا في التلفاز أو في مواسم السياحة؟ سيكون صومهم دون شعور كونهم لم يلمسوا معاناة الفقير أو علموها بصورة مشوّهة، بل صيامهم من أجل أنفسهم وتزكيتها وتدريبها على الطاعة، وتهذيبها على التواضع والاستغناء، وليس الفقير بضعاً من ذلك لأن الفقير لو استغنى فهو مجبور، أما الغني لو استغنى فهو مخير، وقصد الطاعة في الاختيار، وعليه فلا أخلاق إذا صام من أجل الفقير كون وجاهة الفعل مختلفة.
دور الفقير في التشريع هو تكافله وتكامله مع الغني، ليست المسألة مسألة طعام، لأن من الأغنياء من يشبع لكنه مثقل بالديون ومهدد في حياته، ومن الفقراء ما لا دين عليه ويأمن على نفسه، ومن يدّعي أن الصوم لأجل الفقير فهو يزهد في طلب المال ولا يسعى للعمل، لذلك ففي تقديري أن نشأة هذه الكلمة هي نشأة صوفية مقصدها حسن وهو الشعور بالآخرين، لكن جهلوا أن مقاصد الصوم ليست فيها مجرد الكفّ عن الطعام والشراب، بل الإيمان والتقوى، وتلك صفات ليست حصراً على غنيٍّ دون فقير والعكس.
ويدعم ذلك ما رُوي عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه". كذلك ما روي عنه أنه قال: "ليس الصيام من الأكل والشرب وإنما الصيام من اللغو والرفث". هكذا نفهم السنة دون تعارض مع كتاب الله وصريح العقل، فلو كان الصيام لأجل الفقير فهو مجرد الكف عن الطعام والشراب وهذا لم يحدث.
أخيراً، إن الحكمة من الصيام ليست من أجل أحد؛ لأنها عبادة فردية لا سلطان لأحد على أحدٍ فيها، بل هي للتربية والتهذيب وغرس روح المراقبة والطاعة في النفس، فليس للصيام شأن مادي بل جميعه خُلق روحي وتدريب معنوي وثقافة تنظيمية تخلق في النفس حب الجهاد والتواضع والسيطرة على الشهوات.
بينما الفقر والغِنى شأن اجتماعي اقتصادي لا وجه سلوكياً ومعنوياً له، والدليل كما قلنا أن جميع صفات القُبح كالظلم والقسوة والبُخل والجهل والحماقة والسفاهة موجودة لدى الغنيّ والفقير سواء، والخلط جاء من فهم العبادات مركّبة ليست في سياقها، كمن يفهم الصوم بالزكاة والعكس، ومن ادعى أن الصوم من أجل الفقير فهو يفهم الصوم من خلال الزكاة رغم أنه لا رابط بين هذه وتلك، والأوامر في القرآن صريحة أن فريضة الصيام على الجميع دون استثناء، وكفى به دليل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.