في مجتمع شديد الخصوصية وظل حاجزاً ثقافياً بين العرب في الشمال وإفريقيا في الجنوب، كان الصوماليون منذ القدم يملكون أدباً برائحة الإبل وعبق اللبان وتعاريج التاريخ.
شكل رافداً للثقافة والملامح والحياة والتاريخ الفني والحضاري للصومال التي طالما وُصفت بأنها "أمة الحرب والشعر"، وبلد رائد في محيطها حضارياً وأدبياً، قبل أن تنهار حكومتها، وبالتالي انهار معها الأدب وكثير من المظاهر الحضارية، حتى بدت الصومال في المخيلة العالمية دولة الفشل والمجاعة والقرصنة، وأمة لا تملك ماضياً مشرقاً وثقافة بامتداد المحيط، وأدباً بقدسية الشعر والحِكم في بلاد البونت.
رغم اقتران الأدب بالشعر في المخيلة الشعبية الصومالية؛ لكونه بعيداً عن التأثير الغربي الذي أدخل القصص والروايات في الأدب الإفريقي الحديث، فإن الأدب وبمختلف أنواعه يعتبر ورقة شفافة تعكس الخيال المليء بالجمال والشعر وبحر الصراعات وأنهار الأغاني والألحان المعبرة بالإيقاعات المتأصلة في عمق التراث الذي يحتوي على لغة زاخرة بالجمل والألفاظ والمفردات والتراكيب، كما يعبر عما يدور في أوساط الشعب وتصوراته للحياة والواقع والمستقبل والماضي وطريقة تفكيره وأحاسيسه وتعاطيه للأحداث والتغيرات التي تطرأ في محيطه.
ومما يجعل الأدب الصومالي مهماً في هذا الظرف الدقيق؛ كونه يعتبر متحفاً لوطن كان مدخلاً شرقياً لإفريقيا، وأمة ظلت وبحقب مديدة شفهية تعتمد الكلمة في نقل الأدب والفنون والألغاز والألعاب والأساطير وسرد الأحداث، وكونه يحمل في طياته الشيء الكثير من التراث وحقائق عن الإنسان الصومالي وأصله الذي لا نجده في أروقة الكتب وبطون القصص المكتوبة؛ إذ كان الصوماليون يحفظون تاريخهم وعاداتهم وأنسابهم وأيامهم عبر قوالب أدبية قاومت المتغيرات، وبقيت ماثلة إلى يومنا هذا، والقصص المروية في بطون الشعر والحكايات الشعبية توثيق لحضارة أمة وماضي شعب ترك بصماته الواضحة في منطقته.
ورغم تنوع الأدب الصومالي، فإن الشعر يعتبر عموده الفقري ومنبعاً مهماً للحضارة الصومالية، ومن أهم أنواع الأدب شيوعاً واستخداماً في الأوساط الصومالية منذ قرون، حتى أصبحت الصومال بلد الشعر والقافية، وكان الشعر وسيلة هامة يستخدمها الشاعر ليصل صوته إلى الجماهير، كما كان متنفساً مُهمّاً يبث في طياته همومه ومشاكله والمشاعر التي تختلجه، وتارة كان سيفه الذي يدافع به عن قومه وعشيرته ووطنه أو القضية التي يؤمن بها، ولذلك كان الشعر في التاريخ الصومالي ترساً يحمي القبيلة أو الدولة، وبريداً للحب، وعنواناً للجمال، ولافتة للترحيب، وطيفاً سابحاً من الخيال الذي يبث فيه الشاعر القلائد الشعرية المزركشة بأجمل الأنغام وأشجاها، وأصدق المشاعر وأدفئها.
والشعر الصومالي متفرد بطبعه ومتميز بكونه جزءاً لا يتجزأ عن الأدب الإفريقي الذي له خصائص أدبية معينة تفرضه الحياة والواقع والميثولوجيا الإفريقية العريقة، كما هو أدب مشبع بالتراث والتأثير العربي بحكم الموقع وروابط الدين والدم والوجدان والهجرات العربية المتعاقبة نحو المشرق الإفريقي منذ انهيار سد مأرب وما تبعه من تغيرات، مما جعل الأدب الصومالي عربياً بطريقة الأسلوب والاستهلال والأداء وتناول الأحداث.
وخلال المسيرة الطويلة للأدب الصومالي كان الشعر رمانته ولحناً يعزفه الحكماء والأدباء والسلاطين والعشاق في مختلف الأعمار والأمصار الصومالية، حتى أصبح الشعراء مفخرة القبائل، وحفظت الذاكرة الجمعية أسماءهم، وأصبحت السلاسل الشعرية مشهورة تتناولها الألسن والأجيال ويتناقلها السمار في المجالس الثقافية والأدبية والفكرية والدينية.
كان الشعر الأصيل يحمل الذكريات والحنين للأطلال، ويصور الملاحم البطولية وملامح الحياة، ويصف الكون والحياة والإبل، والمرأة التي أبدع الصوماليون في وصفها سواء بلونها الأسمر الأنيق، وقامتها الهيفاء، وثغرها الباسم وجيدها الطويل وشعرها الأسود الفاحم، والجواد مفخرة الرجال، ومما حفظت التاريخ أن السيد محمد عبدالله حسن فاق الشاعر الجاهلي امرأ القيس في وصف ومدح الجياد؛ إذ كان مدح قائد الدراويش لحصانه المفضل حِينْ فِنينْ أبلغ وأكثر عمقاً من وصف امرئ القيس لجواده في معلقته الشهيرة قفا نبكِ.
لم تكن الصومال دولة هامشية في تاريخها، بل كانت مسرحاً للأحداث ونضال الأدب والقوافي والنصال، ولكن وبعد الحروب والتشريد ووجود أجيال جديدة ولدت في المهجر بعيداً عن الأصالة والتقاليد من المطلوب دراسة الأدب الصومالي، وخاصة الشعر، والتعمق في الجوانب الغامضة للتاريخ والتراث، واستقصاء ما حوته الكتب القديمة، وأرشيف المستعمر، وألسنة المعمرين الذين يشكلون مكتبة عامرة وبموتهم تموت المعرفة والعادات التي كانت بعيدة عن الكتابة إلا النزر القليل المكتوب باللغة العربية التي معظمها أوراد وترانيم صوفية وأشعار دينية ووطنية تنتمي إلى حقبة الإمام أحمد الغازي، وثورة الدراويش وامتدادهما، إضافة إلى بعض الأدب الصومالي الذي وُجد في المكتبات الأوروبية.
في عهد المستعمر الأوروبي كان القطر الصومالي الكبير يعيش حياة البداوة والارتحال والاعتزاز بالنفس والحروب، سواء كانت ضد أباطرة "أباسينيا" أو فيما بينهم، أو ضد الغزو الأوروبي، وحارب الصوماليون ضد أربع دول أوروبية، ومنعوا من الاختلاط والتمازج الثقافي والفكري، مما أدى إلى عدم وجود أي أثر كولونيالي في الصومال، حتى بعد مكوث أوروبا في الصومال الكبير أكثر من 400 سنة بدءاً من النجدة البرتغالية في القرن السادس عشر حتى مغادرة آخر جندي أوروبي من الأراضي التاريخية للصومال عام 1977م.
وفي تلك الفترة، ومقارنة بالأدب في إفريقيا الغربية أو الجنوبية، لم يجد الأدب في شرق إفريقيا عموماً، والصومالي خصوصاً، رواجاً من قِبل المستعمر الأوروبي الذي ألّف كثيراً عن الغرب والجنوب الإفريقيين، ولا نعرف سبب هذا العزوف، ولكن كون غرب إفريقيا الموانئ التي تشحن العبيد إلى أوروبا والكثافة القبلية والسكانية، ووصول أوروبا قديماً إلى الجنوب، إضافة إلى عنصر الدين ونظرة الإنسان الصومالي للأوروبي، وانطباع الأوروبيين لا سيما بعد مقتل الرحالة الألماني فون دير ديكن K.K.Vonder Decken الذي قتل بطعن حربة في مدينة بربرا شمال الصومال، والمضايقات التي لقيها الرحالة الإنكليزي ريتشارد بارتون Richard Burton صاحب كتاب "أول أقدام في شرق إفريقيا"First Foot-steps in east Africa جعل الأدب الصومالي بعيداً عن الاهتمام الأوروبي.
واليوم وبعد العولمة الثقافية والتداخل المعرفي في الكون تشكل نشر الثقافة والأدب الصوماليين من التحديات الماثلة أمام المثقفين والكتاب.
إن نشر الثقافة والكتابة عن حضارة أمة كانت بعيدة عن الكتابة والتوثيق إلى العالم الخارجي، لا سيما أن الصومال كانت غارقة في الصراعات في العقود الأخيرة التي شهد العالم انفتاحاً حضارياً ومعرفياً وتمازجاً أدبياً مسؤولية على عاتق كل مَن يملك موهبة بإمكانها أن تقدم الصومال وأدبها وفنونها وألعابها إلى العالم المختلف.
لقد أهمل الصوماليون ماضيهم الأدبي والحضاري كثيراً بأسباب منها انعدام الأمن ودولة تحمي التراث، ومنها أن الكتاب الصوماليين وبعهد قريب كانوا قلّة، ولكن في السنوات الأخيرة وبسبب التبعثر الجغرافي الذي أرسلهم إلى جميع القارات بدأوا يكتبون ويسجلون خواطرهم وماضيهم وحاضرهم، كما اهتموا كثيراً عن مستقبلهم سيما أن الوطن واجه سيناريوهات مرعبة سياسياً وثقافياً وفكرياً، وبرز كتاب مهرة في كل اللغات الحية وفي كل الحقول مما سهل للعالم الخارجي معرفة الوطن وفهم الشخصية الصومالية ومميزاتها.
وأخيراً نتمنى أن نرى في السنوات القادمة أعداداً هائلة من الكتّاب والمؤلفين الذين يبرزون الجوانب المغيّبة لتراثهم، ونرجو من كُتابنا الأعزاء رد الاعتبار للأدب الصومالي الذي شارف على الاندثار، وأن يقدموا للعالم تراثهم المليء بالإثارة والجمال والحِكَم والأعراف والرقصات الشعبية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.