أصُدِمْتَ -عزيزي القارئ- من هذا العنوان؟! أظَنَنْتَ أني أوصيك بغير وصية النبي -صلى الله عليه وسلم- أو أخالف قوله صراحةً؟! لم أكن لأخالف قول نبينا؛ ولكنني رأيت كثيراً من الشباب إما مُفْرِطاً وإما مُفَرِّطاً في هذا الحديث: "تُنْكَحُ المرأَةُ لأرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينهَا؛ فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ؛ تَرِبَتْ يَدَاكَ"؛ فإما نجد مَنْ يضرب بالدين عرض الحائط ولا يلتفت إليه مطلقاً أو -على أقل تقدير- يجعله آخر المعايير، وإما نجد مَنْ يجعل الدين هو المعيار الوحيد في اختياره، وكلا الفريقين على خطأ وسيفشل؛ فأما الفريق الأول فمعلوم سبب خطئه وفشله، وأما الفريق الثاني فيلتبس على الناس سبب خطئه وفشله.
ويأتي السؤال هنا: لماذا يفشل مَن جعل الدين هو المعيار الوحيد لاختياره؟! لماذا نجده بعدما تزوج ذات الدين نادماً على اختياره؟! وفي الحقيقة؛ قد لا يكون العيب فيه ولا فيها، وإنما هو يصلح لغيرها، وهي تصلح لغيره، فطباع الرجل ومقوماته قد تكون محمودة لامرأة ومذمومة لأخرى، وطباع المرأة ومقوماتها قد تكون محمودة لرجل ومذمومة لآخر، والصواب في فَهم مُراد هذا الحديث ومعيار الاختيار كما يلي:
أولاً: معنى الحديث
هذا الحديث ينقسم إلى قسمين؛ (قسم فيه خبر)، و(قسم فيه توجيه ونصيحة منه -صلى الله عليه وسلم-)، فأما القسم الأول: فهو إخباره بأمرين؛ أولهما: المعايير الأساسية التي لا بد أن يضعها الإنسان نُصْب عينيه عندما يعزم على الزواج. وثانيهما: ما ينصرف إليه معظم الناس عندما يختارون للزواج؛ فمنهم مَن يبحث عن ذات المال، ومنهم مَن يبحث عن ذات الحسب، ومنهم مَن يبحث عن ذات الجمال، ومنهم مَن يبحث عن ذات الدين؛ لذلك جعل النبي (الدين) آخر شيء، فهو لم يرتب هذا الترتيب عبثًا؛ بل رتبه بناءً على حقيقة تحدُث في مجتمعات المسلمين؛ فهو جعل (المال، الحسب، الجمال) في جانب، وجعل (الدين) في جانب آخر، وأخبرنا أن معظم الناس لا يلتفتون إلا للجانب الأول؛ لذلك ينبغي ألا نفهم كلامه أنه يوصينا بأن نضع (المال) في المرتبة الأولى، و(الحسب) في المرتبة الثانية، و(الجمال) المرتبة الثالثة، و(الدين) في المرتبة الأخيرة، بل رتب هذا الترتيب من باب إخبارنا بمعايير الناس في اختياراتهم.
وأما القسم الثاني: فنصيحته وتوجيهه بأن نجعل (الدين) في المرتبة الأولى؛ لذلك قال: (فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ؛ تَرِبَتْ يَدَاكَ)؛ ومعناه: أن الدين هو معيارك الأول وليس الوحيد؛ حيث إنها إذا كانت ذات دين؛ فَسوف يَسَعُك أن تنظر لباقي المعايير، وإذا لم تكن كذلك؛ فلا يَسَعُك أن تنظر لأي شيء آخر.
ثانياً: لماذا الخطاب في الحديث مُوجَّهٌ للذكور؟ وهل ليس من حق الفتاة النظر لدين الرجل وماله وحسبه وجماله؟
والجواب؛ أنه دائماً يوجّه النبي كلامه -في أمور الزواج خصوصاً- للذكور وليس الإناث، والسبب في ذلك أن الرجل هو مَن يذهب ويتقدم لخطبة الفتاة وليس العكس، وغالباً يبدأ الرجل كل ما هو متعلق بأمور الزواج وليس العكس، لا كما يظن بعض الجاهلين أن المرأة ليس مِن حقها أن تبدي رأيها فيمَن يريد خطبتها، وكأنها مسلوبة الإرادة، أو كأنها أَمَة في الأسواق تُباع وتُشتَرى بمَحْض إرادة وَلِيِّها، فمِن حق الفتاة أن تبدي رأيها فيمَن ستقضي معه بقية حياتها، وفيمَن سيكون أباً لأولادها.
ثالثاً: لماذا ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- هذه المعايير الأربعة فقط (المال، الحسب، الجمال، الدين)، ولم يذكر أموراً أخرى كـ(السن، التعليم، الثقافة، النظافة، النضج، الطِّباع…) مع أنها أمور مهمة جداً، وقد تُخرَب بيوت بسبب عدم توافرها؟!
والجواب: ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- هذه المعايير الأربعة دون غيرها؛ لا من أجل أنها هي الوحيدة وأن ما دونها غير مهم، بل ذكرها لثلاثة أسباب؛ أولها: أن هذه هي المعايير الأساسية التي يغلب الظن أنها إذا استقامت؛ فستستقيم معها أمور أخرى مهمة أيضاً، فمثلاً: يغلب على ظننا أننا إذا وجدنا فتاةً ذات دين، أنها ستكون ذات صوت منخفض، وستتعامل مع زوجها بالحسنى والمعروف… وهكذا، فالأمر كله غلبة ظن في معايير أساسية إذا استقامت عند أي إنسان -ذكر أو أنثى- فستستقيم معها -بالتَبَعِية- معظم الصفات والمقومات الأخرى. وثانيها: أن الزواج فيه أمور كثيرة سكت عنها الشرع، فمثلاً: لم يحدد الشرع فرق السن التي تكون بين الرجل والمرأة، ولم يضع حدّاً فاصلاً في التكافؤ…، وغيرها من الأمور المسكوت عنها؛ لأنها من الأشياء التي ترجع إلى ارتياح الشخص مع شريك حياته، وله مطلق الحرية في اختيارها وتحديدها، وترجع أيضاً إلى أعراف المجتمعات، وأعراف المجتمعات تختلف من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى آخر.
وثالثها: أن المجتمع المسلم في عهد النبي كان مجتمَعاً بسيطاً لا تتخلله التعقيدات الحالية، فهذه المعايير الأربعة التي وضعها النبي كانت هي المعايير السائدة في المجتمع المسلم آنذاك، بينما الآن أصبحت هناك معايير أخرى -فوق هذه المعايير- لا بد أن توضع في عين الاعتبار عندما تختار شريك الحياة؛ مثل: (التوجُّه السياسيّ)؛ فقد وجدنا بيوتاً خُربت بسبب اختلاف التوجُّه السياسيّ بين الزوجين؛ فهو مؤيد وهي معارضة -أو العكس- ولم يكن في عهد النبوة المباركة اختلاف سياسيّ، بل كان المجتمع بين مسلم وكافر فقط. ومثل أيضاً: (مستوى التعليم)؛ ففي زمننا هذا أصبح التعليم أمراً له شأن وأثر كبير في تحديد مستقبل الإنسان؛ وينبغي للرجل ألا يتزوج امرأةً تعليمها دون المستوى؛ لأنها بذلك لن تستطيع أن تساعد أبناءها في دروسهم، ولن تُعير مذاكرتهم الاهتمام الوافر؛ مما سيؤدي إلى تهديد مستقبلهم، ولم يكن في عهد النبوة المباركة هذا التطاحن المادي ولا هذه الأهمية القصوى للتعليم كيومنا هذا.
رابعًا -وهو الأهم-: هل (الدين) هو المعيار الوحيد لاختيار الزوجة؟
والجواب: للأسف هذا الخطأ يقع فيه كثير من الناس -وخصوصاً في أوساط الملتزمين- فتجد الشاب عندما يتقدم للخطبة لا يسلط الضوء إلا على معيار الدين فقط، متجاهلاً ومُهَمِّشاً كل المعايير الأخرى التي ذكرها النبي في الحديث، أو التي ذكرتُها -أنا- آنفاً؛ فتجده يتنازل عن مستوى (الجمال) الذي يرضيه في سبيل دينها، أو يتنازل عن مستوى (التعليم) الذي سيعينها على مساعدة أبنائها في سبيل دينها، أو يتنازل عن (التوافق السياسيّ أو الاجتماعي أو المادي) بينهما في سبيل دينها، أو يتنازل عن (الفجوة العظيمة في السن) بينهما في سبيل دينها، أو يتنازل عن (مستوى النظافة) في سبيل دينها، أو يتنازل عن (حُسْن الطباع) في سبيل دينها، أو يتنازل عن (مستوى النضج) في سبيل دينها، أو يتنازل عن (مستوى الأنوثة الذي يُرضيه) في سبيل دينها، أو يتنازل عن أي معيار آخر مهم في سبيل دينها.
فلا مانع أبداً ألا تتزوج ذات الدين؛ لأنك لا تراها جميلة، أو لأن تعليمها دون المستوى الذي تريده، أو لاختلافها معك سياسيّاً، أو لأن سنها لا تناسبك، أو لأنك تراها غير نظيفة، أو لأنك تُبْغِض طباعها، أو لأن مستواها الاجتماعي أو المادي لا يتوافق معك، أو لأنك لا تراها ناضجة، أو لأنك لا تراها أنثى كما تريد، أو لأي سبب آخر سيؤثر على حياتك معها.
ومِن ثَمَّ؛ لا تظفر بذات الدين فقط.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.