أُتيحت لي فرصة لقاء مجموعة من الأطفال -بين عشر سنوات واثنتي عشرة سنة– في لقاء مفتوح، فقررت أن أدخلهم متاهة الجدل وأحرضهم على التفكير.. كان هناك أولاد وبنات، فقررت أن أطرح سؤالاً مستفزاً يدخلهم بسرعة إلى النقاش: أيهما أحسن الولد أم البنت؟!
تركت لهم فرصة للتفكير وترتيب الأفكار بحرية فرادى أو في مجموعات صغيرة تعتمد الجندر أو تتجاوزه.
اتفقنا على أن نعطي الكلمة للأولاد والبنات -فرادى- بالتناوب والتتابع.
ألخص لكم دفوعات البنات:
– البنت أحسن من الولد: هادئة – تساعد أمها في أشغال البيت – تعتني بإخوتها – لها الوقت الكافي للاهتمام بدراستها؛ لأنها لا تغادر البيت كثيرا – تسمع الكلام!
أما الأولاد فكانت أفكارهم كالآتي:
الولد أحسن من البنت: يمكن الاعتماد عليه في المهام الصعبة كحمل الأشياء الثقيلة أو الخروج ليلا – يحمل اسم العائلة – يتعاون مع أصدقائه ويحبهم (البنت تحب نفسها فقط وكثيرة الدلال!) – يتمتع بممارسة الرياضة واللعب والخروج بحرية في كل وقت (البنت تحت الحراسة).
كان هناك تدخل مختلف لولد مفاده:
ليس هناك فرق بين البنت والولد – هناك اختلاف – ولكن الأحسن هو من يكون أفضل بشهادة الوالدين والعائلة والمدرسين.
بنت أخرى كان لها رأي مختلف:
الولد أحسن من البنت: بإمكانه اللعب والخروج وليس لديه أي التزامات في البيت، عكس البنت – البنت مظلومة! – تكلفها الأم بالواجبات المرهقة ولا تمكنها من فرص الخروج واللعب والاستمتاع بمرحلة الطفولة..أنا محبطة كبنت.
انتهى النقاش محتدماً، لا يتنازل فيه أحد أو واحدة عن رأيه، لكن لاحظت أنهم يستدرجونني لأدلي برأيي في الموضوع، وعندما لم يفلحوا، بادرني أحدهم بسؤال مباشر: ما رأيك أنت؟
قلت مازحاً: ليس لديَّ فكرة عن الموضوع لهذا طرحت عليكم السؤال.
قبيل الانصراف، قرأت في عيون الجميع تقريباً عبارات مختلفة لكنها تبدأ كلها بكلمة: ربما….
نعود الآن إلى المشهد لنستقرئه:
الحوار.. التعبير بكل تلقائية عما نفكر به أو نحسه أو نعتقده، تلك العملة النادرة في واقعنا ومجتمعاتنا، ليس لدينا القدرة على الإصغاء للآخرين، على الحجاج والإدلاء بالبراهين والأدلة التي تنبني عليها مواقفنا.. هل بنيناها بالعادة، أم بالجهل؟!
قد يكون الموضوع الذي اقترحته على الأطفال غير ذي جدوى، أو حتى تافهاً في نظر البعض؛ لكن الهدف أكبر من ذلك.. التدريب على التفكير واكتساب مهارات وآليات الدفاع عن الرأي.
ملاحظات حول آراء الأطفال:
* كثيراً ما نقع في فخ السؤال إذا كان الاختيار بين متقابلين، فنميل إلى حسم الاختيار ثم استدعاء الأمثلة والبراهين لتأكيد الرأي الذي اعتقدناه صحيحاً.
إلى الآن لم تحسم الأسئلة من قُبيل: التراث والمعاصرة، الحكمة والشريعة… إلخ.
* الموضوعية تبقى دائماً عزيزة المنال، حتى البنت المحبطة واقعها من أوحى لها بالقول إن الولد أحسن منها… والسؤال مطروح علينا نحن الآن.
* لا فرق بينهما.. رغم اختلافهما، هل هو هروب من النقاش؟ أم موقف موضوعي يتجنب مشكلة الجندر ليقف بالمرأة والرجل موقفاً متساوياً، تحدد الكفاءة والنجاح الشخصي الأفضلية فيه؟
* لاحظت أن الأطفال يريدون رأياً حاسماً في ختام الحلقة، وأرادوه أن يكون منّي، لكني رفضت الإدلاء برأيي.. الهدف من النقاش فتح أبواب المعرفة من خلال الرأي والرأي المخالف.. وليس إغلاق المواضيع والحسم فيها.. أسئلة الفلاسفة القدامى ما زالت مطروحة إلى اليوم تحتفظ بجدّتها وراهنيتها، تستفز العقل البشري للقيام بالرياضة المحببة إليه.. متعة التفكير.
ختاماً.. وأنا أكتب هذا المقال أرى الفيلسوف الكبير سقراط يتجول في دروب أثينا بمنهجه الجدلي وطريقته الذكية والساخرة الكفيلة بقلب أفكار محاوريه رأساً على عقب، يدعونا إلى التفكير؛ لأنه الوسيلة الوحيدة للتعرف على ذواتنا لننعم بالسلام الداخلي والحكمة المنشودة.. دُمتم طيبين.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.