كان في منزلنا مزهريةٌ قديمة أطاح بها أحد الأولاد من أقاربنا فكُسرت، ساعدت والدي بلملمة أجزائها، وكنت متجهاً إلى القمامة، فنهاني والدي عن ذلك قائلاً: "ضعها على تلك الطاولة لا شيء لا يعاد إصلاحه بين يدي".
وضعتها وأكملت اللعب يومها دون أي تفكير بسبب حاجة والدي إلى ذلك الحطام، وحين انتهى اليوم وعدت إلى داخل المنزل، وجدت المزهرية مكتملة القوام، بدأت بتكذيب ذاكرتي الضعيفة الهشة، ربما أنا أخطأت المزهرية ربما كان حُلم يقظة، ولكنني وجدت والدي يرسم على وجهه ابتسامة محارب مُنتصر قائلاً: "عادت كأنها جديدة"، صعقت من منظرها القوي المتماسك.
فضولي حين كنت في العاشرة لم يوقفني هناك فحسب، بل ذهبت وتفقدتها من جميع الزوايا تبدو كأنها هي، ولكن دون أي كسرٍ صغير، لمست جسدها بكل تفاصيلها متعجباً بصوتٍ طفولي: "والدي أنت رائع" حتى نظرت بداخلها فوجدت جميع الأجزاء تنزف غراء من الداخل، فخاب ظني بها لا بوالدي، وعلمت حينها ما يُكسر لا يعود أبداً كما كان، كأن القطع المحطمة قامت باحتضان بعضها والغراء هو نزيفها حتى لا تنسى أنها كُسرت.
مر أكثر من أربعة عشر عاماً على تلك الحادثة، وفي زيارتي الأخيرة للوطن رأيتها في غرفة المعيشة صامدة رغم كل الزمن الذي مر على سقوطها الأخير لا تزال تلك القصة محفورة في داخلي، فها أنا أعود لبيتي القديم محطماً، مهشماً ومفتتاً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، أحتضن نفسي جيداً دون وثاق ونزفي لا يراه أي أحد، وشاهدي عليه وسادتي، وارتعاشي داخل جسدي رغم دفئهِ.
فأصافح والدي بشوق لتلك التجاعيد التي نُقشت على يديهِ، وأعانقه كطفل عائدٍ من المدرسة بعد يومٍ سيئ جداً، لكن هذا اليوم طال ليصبح عاماً كاملاً، لكنني لا أستطيع أن أظهر كسري كالمزهرية، فعندما أسقط لا أنثر أجزائي في أرضي، بل أبتلع شظايا الانكسار، وأسقط على قدمي منتصباً، فأنا أعلم الأن أن والدي لن يعيد أجزائي كما كانت، فذلك العناق أظهر وهن والدي، فلن يعيدني كتلك المزهرية أو كإطار دراجتي الهوائية المثقوب ولا حتى كما كان يعيد ترميم الجميع في منزلنا حين يبتسم.
بقيت روعة والدي ملتصقة في مُخيلتي، كلما أنظر في المرآة، لا لأن أتفقد الشيب في رأسي أو حتى لأتأكد من تساوي جهات ذقني، بل كُنت أحاول أن أعد كم شرخاً زاد في وجهي منذ الليلة الماضية، فأنا كتلك المزهرية ملتحم بأجزائي لن أسقط، ولكنني أضمحل رويداً رويداً، أُهمل الأصوات حولي وأستمع لأصوات الهواء كيف تمر عبر جسدي، فصفيرها مدو، كنحيب قلبي. وكنت أفكر دوماً لو أنني بحثت عن غراءٍ خاص بالروح هل يمكنني صنع معجزة كتلك التي صنعها والدي؟ هل سأتمكن من البكاء دون أن يمتص وجهي تلك الدموع؟ هل أبتسم دون أن يؤلمني صدري؟ هل سأنجو من ذلك السقوط الأخير؟ وبقيت الأفكار تراودني كل يوم أستيقظ وأنا أعلم أن عدد الشروخ يزداد يوماً بعد يوم، فبُعدي عن أسرتي زادها شرخين واشتقت لأطفال إخوتي حتماً ذلك شرخٌ إضافي، وغرفة فارغة ليس فيها سوى صدى بكائي الساكن، وألفٌ من الأوراق التي فيها كل أحلامي غارقة بالدموع.
نتشارك أنا والمزهرية رباطة الجأش، ها أنا أبتسم كل صباح أحتسي قهوتي كأنه يومٌ اعتيادي، وهي صمدت بعد ذلك السقوط الأخير أربعة عشر عاماً وأحسدها على ذلك، فها أنا قد ضممت كل أجزائي دون غراء، ولست أملك سوى ضحكات قليلة، فلا أعلم إن نفدت تلك الضحكات فما الذي سيمنعني من التهاوي في السقوط فوالدي بعيدٌ عني ولا أملك في منفاي عناقهُ؟
ربما هو قوتي في الحياة دون علمي، فليس سواه بطل كل قصص الشجاعة في طفولتي، من أوجاع صدري حتى ظلام غرفتي وليس سوى يده من تشرب دمعي، وما زال فضولي يراودني كيف هذه القوة كان تغزوه حولي؟ لكنها مشكلة الآباء الأزلية فهم لا يُصنعون إلا أقوياء.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.