أثناء بحثنا عن ذواتنا قابلنا مارداً عملاقاً…
أثناء بحثنا عن ذواتنا، قابلنا شبكات التواصل الاجتماعي، فلم نكتفِ بإهدائها وردة بل أهديناها أسرارنا جميعها، وأعتقنا آلامنا على صفحاتها، ووضعنا أطباقنا على موائدها، وشاركناها ذكرياتنا وصُورنا، فلم يعد التلصص من خلف حبال الغسيل على الجارة مهماً اليوم، فقد نعرف ما عند الجارة وما خلف حائطها من حائط "الفيسبوك" أو قد يلخّص "سناب شات" يومها، بدءاً من إعداد الفطور مروراً بحبل الغسيل، وانتهاء بحفل العشاء. وقد نعرف موقع سيارتها والمطاعم التي زارتها والحفلات التي حضرتها ونوع الطعام الذي تطبخه والدتها، وموعد عيد ميلاد والدها، كما أننا قد نعرف متى كانت آخر مرة زارت فيها طبيب الأسنان!
لم يعد مهماً أن يقتلنا الفضول لنعرف ماذا اشترى الجار من السوبرماركت، فقريباً سنرى الطبخة مع صورتها على "الإنستغرام" وسنعرف مكوناتها، وقد نتعرف على الوصفة من خلال التعليقات.
لقد أصبحت شبكات التواصل منبر مَن لا منبر له، ومتجر مَن لا متجر له… وشهادة من لا شهادة له.
لقد أصبح العالم قرية صغيرة، بل عالماً بلا أسرار. لقد عرفنا اليوم ماذا فعلتَ في يومك سواء كنا نقصد أن نعرفَ أم لا نقصد. ربما لم نكن نستقصي أخبارك ورأينا ما رأيناه بالصدفة المحضة، وربما كنّا نقصد التلصص عليك. فهل تعاملنا مع هذا الانفتاح المعرفي الهائل كما نريد؟ وهل نرغب حقاً أن نعيش بلا أسرار؟ وهل يعيش أطفالنا الحياة كما عشناها؟ هل لعبوا بالتراب وتسلّقوا الأشجار وصنعوا الذكريات الحية التي تمتزج بالمكان وروائحه، وبالطبيعة وصفاتها وبالطقس وتقلباته؟ هل حقّق "التواصل الاجتماعي" للبعض ذاته أم كان دافعاً للانزواء والاكتئاب؟
وهل ترجح كفّة منافع السوشيال ميديا أم مساوئها إذا ما وضعناها في كفّتَي الميزان؟
لا أحد ينكر أهمية وسائل التواصل الاجتماعي التي تظهر في تعزيز العلاقات الاجتماعية والتفاعل والمشاركة بين أفراد المجتمع، فقد تكون وسيلة لنشر التكافل بين الناس، كجمع التبرعات والتبرع بالدم في الحالات الطارئة، وهي مهمة على صعيد متابعة أخبار العالم والاطلاع على كل ما هو جديد في كافة مناحي الحياة الثقافية والاقتصادية والفنية، ومن خلالها نمارس حرية التعبير والنشر ونتواصل مع الثقافات الأخرى، كما أنها أصبحت وسيلة للإعلانات وللترويج دون قيود وهي وسيلة أساسية للبحث عن الأصدقاء القدامى، واكتساب صداقات جديدة، إلا أن استخدامها المفرط في بعض الأحيان قد يضر بنا من عدة نواحٍ أهمها:
– لا توجد حياة خاصة: فهل ننعم حقاً بحياتنا العائلية الصحيحة؟
– التركيز الفردي على الذات وتعزيز مفهوم الأنانية.
– تشجع على التعامل السطحي السريع مع مسائل حيوية عميقة تستحق أكثر من سطر أو لايك.
– تدعو إلى الكسل وعدم استعمال العقل فقد لا تعطيك الفرصة لتتفكر وتتأمّل.
– تزوير الأعمار وأحياناً تزوير هوية الشخص الأصلية فلا تعرف مع مَن تتحدث أو مَن تتابع.
– تولّد أحياناً مشاعر سلبية مثل الحسد وخيبة الأمل.
– تمنح بعض الناس شهرةً غير مستحقة فيذهب الصالح مع الطالح، وتؤدي إلى انخفاض مفهوم الذات لدى البعض عندما يرون الآخرين قد حققوا نجاحاً وأصبحوا أفضل منهم.
– تشكّل خطراً على الأطفال الذين قد يستدرجون عن طريق أشخاص سيئين.
– قد تصل متابعة السوشيال ميديا إلى الهوس بها، فتقتل الإبداع؛ لأنها تؤدي إلى الإدمان، وتحرمنا من ممارسة المهارات الحياتية البسيطة، كما أن بعض الناس يتعلقون بها حتى أثناء القيادة.
– بعض الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم من المحسنين يروجون لأنشطتهم بنشر صور لذوي الاحتياجات الخاصة والأيتام والمرضى والمحتاجين بدافع الشهرة والنفاق الاجتماعي، مما يؤدي إلى جرح مشاعر الآخرين.
أتساءل أحياناً: كيف سيكون هذا العالم بعد سنوات من الآن؟ وهل ستكون هناك أسقف فوق رؤوسنا؟ أو نوافذ لبيوتنا؟ وهل سنظل نبحث عن ذواتنا عبر الشاشات والهواتف والحواسيب؟ هل سيظل للتواصل البشري والحسيّ معنى؟ وهل سيخرج لنا مارد أو عملاق آخر من مصباح علاء الدين؟ وما هي أمنياتنا الأخيرة؟ إنها بلا شك ليست السعادة والصحة والقناعة على الطريقة القديمة.. إنها صحة وسعادة رقمية متطورة، ستجعل المارد يتوقف ويسأل نفسه: ما الذي دهى بني البشر؟ ألا يستطيعون أن يتحدثوا مع بعضهم مباشرة ودون وسيط؟!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.