– يا ريت شارون محاكم عن بكرةِ أبيكم..
كلمات قالها المسيحي اللبناني طوني حنا (عادل كرم) لياسر سلامة (كمال الباشا) الفلسطيني المقيم في أحد مخيمات اللاجئين في بيروت، وذلك بعدما قام ياسر بسبّه علناً.. شكّلت تلك الكلمات أذى نفسياً لياسر سلامة فقام بضربه في لحظةِ انفعال ليصاب طوني بكسر في ضلعين.
وتحولت تلك الإهانة إلى قضية رأي عام يبحث فيها كلا الطرفين عن أحقيتهما في ربح القضية!
فيلم قضية رقم 23 والمعروف دولياً بـ"إهانة" يعرض معالجة للأحداث السياسية الناشبة في لبنان عن طريق قضية بين شخصين من خلال تقديم دراسة لشخصية لكل منهما والانغماس في الدوافع التي ربما تؤول إلى الأيديولوجية السياسية التي يعتنقها طوني حنا وياسر سلامة.
– حتى لو كنت من أكتر الناس المظلومين بالعالم، هذا ما بيعطيك العذر إنك تتصرف بشكل عنيف..
ياسر سلامة، المهندس لدى إحدى شركات الصيانة وإزالة المخلفات في أحد أحياء بيروت يطلب من طوني تصليح مزراب شقته لتسرب المياه عليه أثناء عمله بالحي، فيرفض طوني وينتهي الحوار بأن يسبه ياسر.
ياسر قد شهد أحداث ما يعرف سياساً بـ"أيلول الأسود"، عندما حاصرت قوات من الجيش الأردني مخيمات الفدائيين وقامت بقصفها، وكان من بينهم مدنيون، ومنهم ياسر سلامة الأمر الذي أفضى في نفسه إلى الشعور بالقهر واضطراب الهوية.. وقاده ذلك إلى التسبب بعاهة مستديمة لأحد أفراد الجيش الأردني!
كان ذلك في سنواتٍ مضت لكن المحامي الموكل بالدفاع عن طوني استخدم تلك الأدلة لإثبات أن ياسر سلامة يمتلك طابعاً عدائياً دفع به إلى سب مواطن لبناني وضربه.. لكن كيف يكون ذلك وهو الرجل الذي ربما يُكلف الشركة التي يعمل بها أموالاً لشراء آلات فقط؛ لأنه يريد إنجاز مهامه بأفضل جودة متاحة؟!
– ياسر سلامة كمان صار عنده ردة فعل ع الكلمات يـاللي استهدفت هويته.. هذا شيء طبيعي.. هذا شيء حتمي، هي طبيعة الإنسان..
أما طوني المواطن اللبناني صاحب جراج السيارات بصدد ولادة طفلته الأولى.
قد تعرض لتجربة مؤلمة في صغره أثناء مذبحة الدامور في الحرب الأهلية اللبنانية عندما قامت قوات من منظمة التحرير الفلسطينية بقتل العديد من مواطني الدامور وإجبار الباقين على الفرار هرباً خارج بلدتهم.. كان طوني صغيراً وقتها لكن تلك الذكريات غرست في دخيلته كرهاً للفلسطينيين دفعت به لتلك الكلمات المهينة التي قالها لياسر سلامة.
تجربة طوني مع المعاناة والخلاص هي التي جعلته يتكتل بهذا الكره الذي بات جلياً حتى في الخطابات السياسية التي يسمعها بل ويرددها في جراج السيارات الذي يعمل فيه.
– هيك بتبلش الحروب..
مع التقاء أطراف الصراع وتصاعد القضية إعلامياً انقسم المجتمع اللبناني إلى مؤيدين للسيد طوني، وآخرين من مناصري ياسر سلامة ومن بينهم لبنانيون.. ويعد هذا الفصل من أحداث الفيلم الأفضل في تقديري؛ حيث بدأ الكشف عن زوايا أخرى للشخصيات وتسليط الضوء على كيفية تناول الأحزاب السياسية للقضية، أو بمعنى أدق كيف يستفيد كلُ ذي رؤية بالقضية رقم 23 لخدمة أجندته ولتأييد وجهته السياسية..
ولعل خير مثالٍ لذلك هو محامي طوني السيد وجدي وهبة (كميل سلامة) الذي لعلّه وافق على أن يترافع عن تلك القضية بسبب توجهاته السياسية والتي وجد بنزعته الاستهلاكية أن تلك القضية ستخدم رأيه..
هل حقاً تشعر بهم الطفلة؟
زوجة طوني (ريتا حايك) في أواخر حملها تخبره أن طفلتها تشعر بهم في بطنها.. تشعر بحزنهم وبألمهم.. تشعر بالأوقات العصيبة التي تمر عليهم، فهي شخصية بسيطة تتمحور دوافعها في الفيلم حول توفير حياة أفضل لابنتها، لكن جراء ما حدث قد تعرضت لعملية ولادة مبكرة جعلت حياة طفلتها على المحك، فلا تستطيع التنفس سوى بأجهزة صناعية، وهذا وللأسف هو الحال مع النشء القادم الذين يشبّون في هذا المناخ السياسي المفعم بالمشاحنات والعرقلة السياسية التي يمارسها كل فصيل على الطرف الآخر..
– ما حدا من حقه إنه يحتكر المعاناة..
أعتقد أنه عندما قال السيناريست الأميركي تشارلي كوفمان: إن الهدف الأسمى للسينما هو إظهار المشترك بين البشر من ضعف، كان يقصد تيمة سينمائية مثل القضية رقم 23، فكلاهما قد تألم وعانى مرارة الهوية التي ترغم الإنسان على شخصية ربما يكون أبعد البُعد عنها.. فمع مرور أحداث الفيلم يتضح الجانب الإنساني لياسر الذي أخفى عن المحكمة كلمات طوني المهينة.. وكذلك طوني الذى يرفض تعميم القضية وكل ما يريده هو اعتذار كما أنه قد أخفى عن محاميه بعض تفاصيل القضية..
وقرب نهاية الأحداث يجد طوني مزراب شقته مُصلّحاً.. لن تعد المياه إذ تتسرب بعد من شقته على العاملين بالحي، لكن ماذا عن الكره الذي يغدق به كل منهما على الآخر؟!
الفيلم من الناحية الفنية:
زياد دويري له مفرداته وأبجديته السينمائية الخاصة.. فأغلب مشاهد الفيلم تجلّت فيها حركات انسيابية للكاميرا لا سيّما في مشاهد مرافعات المحكمة وغيرها في العديد من المشاهد الأُخرى التي جعلت المشاهد يشعر بكونه في متن الحدث الذي يراه على الشاشة.. هذا بجانب مشاهد الـdrones للطبيعة الجميلة ببيروت وما فيها من إبهار بصري جعلت الفيلم يفيض بتجربة بصرية فاعلة.
وقد وازن الفيلم في الإيقاع مروراً بالمشاهد السردية السلسة أو التي يكون لها طابع كوميدي إلى أكثر المشاهد تفجّراً بالمشاعر ولحظات الدراما، وهذا التوازن قد نتج عنه متابعة فعالة لأحداث الفيلم وتناسق بين عناصره السينمائية.
وأما عن الأداء التمثيلي فيعتبر من أجود عوامل الفيلم بعد السرد الإخراجي وربما أفضلها -في رأيي- أداء عادل كرم الذي أتقن إظهار نبرة الكره والعنصرية، كما أتقن في قمعها بعد تحوّل واضح لأبعاد الشخصية في فصول الفيلم الأخيرة..
كما كانت الشخصيات المساندة في الفيلم موفقة، ولعل من أهمها جوليا قصار في دور رئيسة المحكمة.
الفيلم لا يختزل القضية الفلسطينية مطلقاً مثلما توجهت الاتهامات إلى مخرج الفيلم زياد دويري، لكنه ينصف القضية العربية عموماً ويسلط الضوء على الطائفية التي تتجلى ليس فقط في لبنان، لكن أيضاً في الأردن وفلسطين!
وأنا لا أعلم هل قصد صناع الفيلم برقم 23 عدد الدول العربية بعد التقسيم؟ أم أن هذا بمحض الصدفة؟ لكن أياً يكن فلا شك أنه تتبقى قضايا طائفية أخرى غير القضية رقم 23 في العالم العربي في انتظار الحُكم فيها!
مَن ربحَ القضية؟
وبعد كل ذلك هل حقاً حيثيات الحكم تقضي بأن ياسر سلامة قد ربح القضية رقم 23 أم أن في ساحات القضاء السياسي لا يربح أحد، وكلنا نخسر كل شيء؟!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.