لا ينتهي حديثي عن ابن حزمٍ حتى ألقاه على الحوض -إن شاء الله- لعل الله يغفر لنا أنْ كُنَّا لا نكتُمُ العشق وإن كنَّا نستر دموعَنا عن أحبابنا.. أقول هذا وأخمِّن أن كلَّ قارئٍ مطَّلعٍ على حضارة أجدادنا في الأندلس قد عرف أنهم كانوا يعيشون في مجتمعات تؤمن بالحب وتُعلِنُه.
ولا ينحصر الأمرُ في ابن زيدون مع ولَّادةَ بنت المستكفي ولا ينحسر، فقد كان في ضواحي قرطبة ألف زيدون وألف ولَّادةَ، حتى سبق الشعراءُ الأندلسيُّون إلى الآداب الرومانسيَّة -كما تُسمَّى- وبرَعوا فيها أيَّما براعةٍ، وفتحوا أبوابَها وشادوا عِمرانها حتى اسْتدَّ البناء واشْتدَّ، ولا يحتفي شاعرٌ بوردةٍ إلا إذا كان أندلسياً أو مضمَّخاً بعِطْر الأندلس.
يقول الشاعر ابنُ بدرٍ القرطبيُّ يصف التشابه بين ورودٍ أهداها له بعض أصحابه وبين لون خدود المرأة التي يتغزَّلُ بها، وكيف أنها اتَّهمتْه بأنَّ ذلك الورد مسروقٌ من خدَّيْها:
كنتُ قد أُهدِيتُ وَرْداً فادَّعتْ ** أنه مِن ورد خَدَّيْها سُرِقْ
ومَشَتْ عَجْلى إلى مِرآتِها ** فإذا وردٌ كوردٍ في الطَّبَقْ
فهي لمَّا ظنت أن الورد مسروقٌ من خدَّيْها ذهبت مسرعةً إلى مرآتها حتى تتأكد، فإذا ورودها لا تزال معها.. أليس هذا التصوير غايةً في الروعة والجمال؟ وهل تكون هذه الصورةُ إلا صورة من "ربيع قرطبة"؟
وفي مَرْتَعٍ آخر؛ هل نجد شاعراً أصاخَ بسَمْعِهِ -قبل ابن خَفاجةَ الأندلسي– إلى جبلٍ ليُحدِّثَهُ بأخبار الزمان ويرويَ له أحاديث من مرُّوا به ولجأوا إليه؟
وأرعنَ طمّاحِ الذُؤابةِ بَاذخٍ ** يُطاولُ أعنانَ السماءِ بغاربِ
يَسُدُّ مَهَبَّ الريحِ من كلّ وِجهةٍ ** ويزحمُ ليلاً شُهْبَهُ بالمناكبِ
وَقُورٍ على ظَهرِ الفلاةِ كأنهُ ** طوالَ الليالي مُفْكِرٌ بالعواقِبِ
يلُوثُ عليهِ الغيمُ سُودَ عمائمٍ ** لها منْ وميضِ البرقِ حُمْرُ ذوائبِ
أَصَخْتُ إليهِ وهوَ أخرسُ صَامتٌ ** فحدثِني ليلَ السُرَى بالعَجائبِ
وقال ألا كم كنتُ مَلجأ قاتلٍ ** ومَوطنَ أوَّاهٍ تبـتَّلَ تائبِ
وكم مرَّ بي من مُدْلِجٍ ومُـؤَوِّبِ ** وقـال بِظِلِّي من مَطِيٍّ وراكبِ
وهل عرف الناس مجالس الطرب وحفلات الأنس إلا في الأندلس؟
ومِن الشِّعْر الذائع الذي غنَّاه الناس شرقاً ومغرباً؛ أبيات لسان الدين ابن الخطيب أحد أعلام مدينة غرناطة الجميلة، إذ يقول:
جــادك الغيــثُ إِذا الغيـثُ هَمَـى ** يــا زمــان الــوصل بــالأَندلسِ
لـــم يكــن وصْلُــك إِلاّ حُلُماً ** فــي الكــرى أَو خُلسـة المخـتَلِسِ
هكذا كان عنصر الحبِّ والجمال مركزياً في الأدب والمجتمع الأندلسيَّيْن، فليس الأمر مقتصراً على "طوق الحمامة" لأستاذنا ابن حزم، وإن كان هذا الكتاب تتويجاً رائعاً لهذه الحركة الأدبية، وقد ألَّفه في عصرٍ عامرٍ بأهل العلم وحُفَّاظ الحديث وكبار الفقهاء وأهل الفتوى من المالكية والظاهرية وغيرهم، وما سمعنا عن أحدٍ منهم إنكاره لتأليف كتابٍ يحلل فيه ظاهرة الحب الإنساني بمنهجٍ منفتحٍ إلى أقصى الحدود.
هذا يدُلُّ حتماً على أنه لم يكن مفاجئاً في نظرهم أن يكتُبَ فقيهٌ كابن حزمٍ فصولاً في الحُبِّ والغرام والعلاقة بين الرجل والمرأة بكل تفاصيلها المشوقة، وأن يُفسِّر هذا المعنى الجليل لا من نظر جِلْفٍ لا يفقه الحياة، بل من نظر خبيرٍ بأسرار النساء عارف بأخبار العُشَّاق، كيف لا وهو الذي كانت له تجربة في الحب لم تَكَدْ جمرتها تخبو منذ أيام مراهقته في أزقة قرطبة الساحرة!
كيف لا وهو الذي يعرف جيداً حديث الصحابي الجليل مُغيثٍ مع حبيبته بريرةَ التي طلَّقها ثم ندم على طلاقه فظَلَّ يبكي عليها في شوارع المدينة النبوية حتى جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شافعاً له عندها ولم تقبل بريرةُ -غفر الله لها- شفاعته عليه السلام.
يا شيخ هل الحب حرام؟
من وجهة نظرٍ نفسانية أكاد أجزم أن من يطرح سؤالاً كهذا هو يعاني من مرض نفسي لا أدري ما اسمه بالضبط، لكن الأكثر رُعباً هو أن يبدأ الشيخ -بعد أن يتربع على كرسيِّ فتواه- متمطِّقاً بكلماتٍ كحبَّات البَرَد يقذف بها على وجه سائله المسكين، حتى كأنه يريد بذلك إخمادَ نارٍ تتلظَّى في صدره وهو يرجو أن يبحث له عن حلٍّ يسعفه به في لقاء حبيبته، فإذا هو يتوعَّده بالعذاب والعقاب وشديد الحساب ومحق البركة في الرزق ونقصٍ في العقل وانهيار العقيدة في قلبه حتى كأنه على بُعْد خطوة أو خطوتين من الكفر بالله.
وأنا أزعم أن عقولاً تفكر هكذا لم تستوعب معنى الحياة بعدُ، ولا نهلت من معين القرآن الذي هو الكتاب المقدَّس للحياة بجميع تفاصيلها.
يقول ابن حزم مفتتِحاً كلامه عن ماهية الحب:
"الحب -أعزك الله- أوله هزل وآخره جِدٌّ، دقَّتْ معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تُدْرَك حقيقتُها إلا بالمعارضة، وليس بمُنْكَرٍ في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل" (طوق الحمامة، ص: 05)
وقد نتساءل كيف له أن يستحضِرَ الحكم الشرعي في ثنايا تعريفه للحب؟
وقد يكون الجواب الأكثر مناسبة لهذا الاستحضار هو أن ماهية الحب -أي تعريفه- يتداخل فيها الطبيعي بالشرعي، وأنه لا يمكن تصوُّر تضادٍّ بينهما. فالحُبُّ غريزةٌ طبيعية، وهذا يتجلى في عبارة ابن حزم: "إذ القلوب بيد الله"، وفي الوقت نفسه هو مستساغٌ في الشريعة غير محظورٍ؛ لأن الذي شرع الأحكام هو الذي يمتلك القلوب، ولن يكلف الله نفساً إلا وُسعها.
هذا بالضبط ما يمكن فهمه من ذِكر ابن حزم الأندلسي الحكم الشرعي لظاهرة الحب الإنساني مباشرةً بعد تعريفه له أو في العبارة نفسها التي وضعها تحت عنوان "ماهية الحب".
هكذا بدأ فقيهُنا كتابه الذي سيكون خلال عشرة قرون بعد تأليفه؛ أهمَّ دساتير الحب في الحضارتين الشرقية والغربية على حدِّ السواء، وهكذا أسَّس لتلك العلاقة المقدَّسة بين الرجل والمرأة وفتح باباً مُشْرَعاً للقلوب حتى تمارس حقَّها الطبيعيَّ في الشراكة الحياتيَّة دون أن يُعيقَها فِكر استئصاليٌّ ظلاميٌّ يجعل من "حق الإنسان" مجالاً للترهيب والتخويف، ويبدو أن ذلك -كما سبق وأن ذكرتُ- لم يكن له حضورٌ في المجتمع الأندلسي، وأن واقع حياتهم كان لا ينفكُّ عن الكلام في الحب والعشق حتى وصل ذلك إلى مجالس كبارهم من الأمراء والفقهاء والقضاة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.