يقترع يوم الرابع والعشرين من الشهر الجاري في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتزامنة أكثر من 59 مليون ناخب تركي، منهم أكثر من 56 مليوناً داخل تركيا والباقي من أتراك المهجر. لكنهم ليسوا سواءً، إذ ثمة فئات في يدها أن تحسم نتيجة الانتخابات المقبلة أكثر من غيرها.
تقليدياً يُشار إلى فئتين رئيستين: الشباب والأكراد. حيث يشارك في هذه الانتخابات مليون و650 ألفاً من الشباب الذين يقترعون للمرة الأولى، وسبقهم مليونان اقترعوا للمرة الأولى في الاستفتاء الشعبي العام الفائت، وهكذا. هؤلاء الشباب لا يعرفون بدقة تركيا ما قبل العدالة والتنمية، ولا يخافون بنفس درجة آبائهم من الفوضى أو الفراغ أو عودة الانقلابات، كما أنهم أقل اقتناعاً بالقيادات والأحزاب السياسية المختلفة وفي مقدمتها العدالة والتنمية. ولذلك مثلاً صوت %58 ممن اقترعوا لأول مرة في استفتاء النظام الرئاسي برفضه، في حين كانت نتيجته في عموم تركيا القبول بنسبة %51.4.
لكن الفئة الأكثر تأثيراً في نتيجة الانتخابات التركية في المناسبات الأخيرة كانت الطيف الكردي عموماً وأنصار حزب الشعوب الديمقراطي على وجه الخصوص، وهو الأمر المرشح تكراره في هذه الانتخابات أيضاً.
تتوزع أصوات الأكراد في تركيا على أحزاب كثيرة بدرجات متفاوتة، في مقدمتها العدالة والتنمية والشعوب الديمقراطي (القومي الكردي) والشعب الجمهوري والدعوة الحرة (الإسلامي الكردي) والسعادة، بل وحتى الأحزاب القومية التركية مثل الحركة القومية والحزب الجيد مؤخراً.
في هذه الانتخابات البرلمانية، بقي الشعوب الديمقراطي خارج إطار التحالفين الرئيسين، حيث يعارض خط أردوغان والعدالة والتنمية ولكنه أيضاً لا يتوافق مع الحزب الجيد ثاني أحزاب تحالف "الأمة" المعارض، فضلاً عن أن التحالف نفسه لم يرد أن يَصِمَ نفسه بـ"دعم الإرهاب". ذلك أن عدداً كبيراً من قيادات الشعوب الديمقراطي تحاكَم حالياً بتهم تتعلق بدعم الإرهاب (حزب العمال الكردستاني) وفي مقدمتهم الرئيسان التشاركيان السابقان للحزب فيغان يوكساك داغ وصلاح الدين دميرطاش، الذي ترشح للانتخابات الرئاسية من وراء القضبان في ظل استمرار توقيفه بسبب المحاكمات.
وبسبب نظام العتبة الانتخابية، أي نسبة %10 المطلوبة لدخول أي حزب أو تحالف للبرلمان، فإن مدى قدرة الشعوب الديمقراطي على تخطيها ودخول البرلمان من عدمها ستحدد بدرجة أو بأخرى نتيجة الانتخابات البرلمانية وشكل البرلمان المقبل والتوازنات بين التحالفين تحت قبته.
فحصول الحزب على %10 ودخوله البرلمان قد يعني خسارة العدالة والتنمية وتحالف "الشعب" الأغلبية البرلمانية (رغم أن هناك احتمالاً بعدم خسارتهم رغم دخوله البرلمان)، إذ سينضم الشعوب الديمقراطي في المواقف والتصويت وليس بالضرورة رسمياً لتحالف "الأمة" لمواجهة أردوغان، وهو ما قد يعطي المعارضة الأغلبية.
وأما في حال فشل الشعوب الديمقراطي وبقي خارج البرلمان، فستوزع أصواته – وفق قانون الانتخاب – على الأحزاب المتمثلة في البرلمان على حسب نسبة كل منها في كل دائرة انتخابية على حدة. ولأن العدالة والتنمية هو الحزب الأقوى بعد الشعوب الديمقراطي في مناطق الأغلبية الكردية في الشرق والجنوب الشرقي، فضلاً عن قوته في باقي الدوائر بشكل عام وخصوصاً إسطنبول، فستكون له حصة الأسد من أصوات ومقاعد الشعوب الديمقراطي، الأمر الذي قد يعني حصوله على الأغلبية البرلمانية منفرداً، حتى دون شركائه في تحالف الشعب.
حتى الآن، تظهر معظم استطلاعات الرأي قدرة الحزب على تجاوز العتبة الانتخابية ودخول البرلمان، وهو الأمر المقلق للرئيس التركي وحزب العدالة والتنمية، ولذلك تركز استراتيجية الأخير في حملته الانتخابية على الشعوب الديمقراطي وعلاقته العضوية بحزب العمال الكردستاني، إيماناً منه ربما بأن مصير الانتخابات منوط بنسبة التصويت للأخير. بيد أن القيادي في الشعوب الديمقراطي مدحت سنجار حذر قبل يومين من أن تؤدي هذه النتائج لاطمئنان أنصار الحزب وتقاعسهم عن التوجه لصناديق الاقتراع، مؤكداً أن الحزب ما زال غير ضامن لدخوله البرلمان.
ما يزيد من فرص الشعوب الديمقراطي في تخطي العتبة الانتخابية هو حرص أحزاب المعارضة وخصوصاً الشعب الجمهوري على ذلك للأسباب سالفة الذكر. ولذلك، ثمة أحاديث غير مؤكدة حول أن الحزب قد يطلب من عدد من أنصاره التصويت له لضمان دخوله البرلمان، كما فعل سابقاً في انتخابات حزيران/يونيو 2015 البرلمانية التي حصل فيها الشعوب الديمقراطي على نسبة %13, وقال قياديوه حينها أنهم "يدركون أن جزءاً من هذه الأصوات أمانة لديهم" فقط.
أكثر من ذلك، قد تكون الأصوات الكردية عموماً وأنصار الشعوب الديمقراطي تحديداً هي من ستحسم الانتخابات الرئاسية في حال بقي الحسم لجولة إعادة تتنافس فيها ميرال أكشنار (القومية) مع أردوغان، وهو احتمال ضعيف. حيث يتوقع تصويت نسبة كبيرة من الأكراد لأردوغان وامتناع كثيرين عن الاقتراع، الأمر الذي سيكون كافياً لفوزه. بينما ستذهب معظم أصوات الأكراد الإسلاميين والمحافظين لأردوغان في الجولة الأولى، ومعظمها له في جولة الإعادة في حال حصلت وجمعته مع إينجة (سيناريو أوفر احتمالاً من أردوغان – أكشنار) إضافة لأصوات الإسلاميين والمحافظين من الأتراك ما سيحسم الأمر مجدداً له. وينبغي عدم إغفال أن حزب الدعوة الحرة قد أعلن بشكل رسمي عن دعمه لأردوغان في الانتخابات الرئاسية.
هذه الحسابات الكثيرة والدقيقة، يقف أمامها عائقان رئيسان، الأول تحالف العدالة والتنمية مع الحركة القومية المعروف تاريخياً بموقفه السلبي من "المسألة الكردية"، والثاني غياب أي حديث عن عملية تسوية جديدة مع الأكراد في برنامج أردوغان والعدالة والتنمية. حيث يرى الأخير أن تركيا قد قطعت شوطاً كبيراً في هذا المضمار وأنه لم يعد هناك "مشكلة كردية" في تركيا وإنما "بعض المشاكل لبعض الأكراد" فيها، وبالتالي تحدث البرنامج الانتخابي للحزب عن حقوق المواطنة المتساوية والتنمية بشكل عام دون تخصيص الأكراد.
ولكن في كل الأحوال، ما زال أردوغان يحظى بثقة نسبة لا بأس بها من الأكراد، المحافظين منهم واليساريين على حد سواء، إذ يرون فيه في نهاية المطاف السياسي القوي وربما الوحيد القادر على منحهم شيئاً في المستقبل. ولذلك ثمة أمل لديهم بعودة أردوغان وحزبه إلى عملية تسوية سياسية في المستقبل بعد هذه الانتخابات وإقرار النظام الرئاسي الذي سيقوّي من مؤسسة الرئاسة وأردوغان – أقوى المرشحين فرصة – وتقلل من حاجته – نظرياً على الأقل – للحركة القومية.
ولذا، فكما كان العامل الكردي هو الحاسم في تمرير التعديل الدستوري العام الفائت، في حين تحدت معظم الكتلة التصويتية للحركة القومية قرار قيادتها المتحالفة مع العدالة والتنمية ورفضت التعديل (نسبة %80 وفق بعض الإحصاءات)، ثمة توقعات بنمط تصويت مشابه في هذه الانتخابات أيضاً من قبل الطيف الكردي. وهو ما يضعه مجدداً في مقدمة الفئات القادرة على حسم نتيجة الانتخابات المقبلة سلباً او إيجاباً، وتضع على طاولة صانع القرار التركي مجدداً سؤال الملف الكردي بعد إعلان النتيجة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.