لا بدّ لك وأنت تتمشى في أحضان تلك المدينة، الوديعة الغافية على أعتاب المتوسط كطفلٍ غافَله النوم خلسة، فاستسلم له دون حولٍ أو قوة، أن تلاحظ بأنّ للإسكندرية قصتين؛ إحداهما محكية، والأخرى غارقة في غياهب الصمت والظلام، قصتين تقف بينهما تلك "السكة الحديدية" بكل جبروتها وقوتها لتمنعهما من الانصهار والتبوتق في إطار رواية إنسانية واحدة ربما ستضاهي لو اجتمعت أشهر الروايات العالمية والملاحم الإغريقية.
تلك "السكة الحديدية" التي حولت الإسكندرية إلى مدينتين مختلفتين، إلى قصتين متناقضتين، إلى حلمين لا يمتان لبعضهما بصلة، فكانت بمثابة "جدار برلين" المنهار أو "جدار الفصل العنصري" الجبان الذي شطر قلب فلسطين وأدمى خدها، كيف لا وقد أضحت الإسكندرية بفضل تلك "السكة الحديدية" تعيش حياتين وتستنشق نوعين من الأكسجين وتأكل صنفين من الخبز؛ أحدهما سياحي مجبول بالحليب والسكر، والآخر شعبي مجبول بالعرق وسخط الحياة.
فدون أدنى شك بأن شوارع الإسكندرية العريقة وأحياءها العتيقة كمحطة الرمل والمنشية ولوران والإبراهيمية وكفر عبده وشارع سوريا ستحدثك عن أيام الشيب والصبا، أيام الفن المعماري القديم وذاك الحديث الذي يظهر بوضوح على عماراتها التي يرتسم على وجوه بعضها تجاعيد الشيخوخة الجميلة، بينما يشع وجوه بعضها الآخر بنضارة الشباب وإشراقة الحياة، ستحدثك أيضاً عن الرقي ورخاء الحياة وستعطيك انطباعاً بأنّ كل من يعيش تحت سماء هذه المدينة يتمتع بالشوارع النظيفة والمحال التجارية المتعانقة التي تبيع أشهر ماركات الألبسة والعطور وكل ما يخطر على بال.
أما عن كورنيش الإسكندرية وشاطئها الرحب الذي تغزلت به فيروز ودلعته بـ"شط الهوى"، فسيصيبك ذاك الشعور بأنه يعانق أمواج البحر ويسير بجانبك ويتبادل معك أطراف الكلام المعطر عن الحب والجمال والبساطة ومشاق الحياة، حتى إنك تكاد تتعب من المشي وهو ما زال يفيض نشاطاً وحيوية ويمتد إلى اللانهاية، ناهيك عن كونه الحضن الدافئ الذي يحتضن مدينة الإسكندرية من كل جهاتها، وسيحكي لك الكورنيش بكل تأكيد قصصاً وأسراراً لم تذق طعمها من قبل؛ حيث ستستوقفك عربات باعة الترمس واللب السوري والفول والشاي والقهوة وحاملو الورود الحمراء؛ لتقص عليك الكثير من الحكايات عن البساطة والطيبة والروح المصرية المحبة للحياة.
كما سترى جموع الشباب المصري يجلسون على أطراف السور الإسمنتي الذي يفصل رمال البحر عن الرصيف المخصص للمشاة، والذي يحلو لي تسميته بـ"سور الإسكندرية العظيم"، ويتبادلون فيما بينهم الأحاديث التي لا بدّ تتمحور حول صعوبة الحياة والمستقبل الموشى بالضباب وغلاء الأسعار، والتي لا يغيب عنها أيضاً وشوشات عن الحب والفن والموسيقى والأدب، فالمصري بطبيعته يتميز بقدرته العجائبية على مقارعة الحياة ومصاعبها بالنكات والطرائف وعبارة الـ"معلش" المحببة على قلوب المصريين، ولا سيما الإسكندرانيين التي تسمع صداها يتردد في كل مكان وزمان.
وأما إذا ما نظرت إلى الضفة المقابلة لكورنيش الإسكندرية، فسترى المقاهي والمطاعم تشاور لك من بعيد وتغريك لدخولها من خلال الكراسي والطاولات المزينة المتربعة على الأرصفة والتي تعطيك شعوراً غريباً بالترف والفخامة ورقي النمط المعيشي لهذه المدينة الجميلة، ذاك الشعور الذي يدخل إلى قلبك ويملأه بالشك والريبة، فكيف لهذه المقاهي صاحبة الابتسامة الباردة أن تستقبل بداخلها قلة قليلة من الناس، بينما يمارس غالبية الشباب وكبار السن طقوسهم الترفيهية اليومية هناك على "سور الإسكندرية العظيم" الذي يبدو لي أحن بألف مرة من تلك المقاهي المخصصة بكل تأكيد لأصحاب الأموال المكدسة في الجيوب وحقائب السامسونايت كدهون الأرداف.
وبعيداً عن كورنيش الإسكندرية وأحيائها الراقية، يلوح لك شبح تلك "السكة الحديدية" المقيتة التي تشعر وكأن سحابة سوداء تطوف فوقها، تلك "السكة الحديدية" التي تخفي خلفها نسخة مختلفة تماماً عن رواية الإسكندرية المتوافرة في أرقى المكتبات وصالات بيع الكتب الراقية، تخفي خلفها قصصاً إنسانية لم تكتب لها أن تروى بعد ولم يفكر أي كاتب أو روائي مرموق أن يحيك أحرف كلماته ليقص لنا بعضاً منها، ولم تعرف حتى كاميرات المحطات التلفزيونية المرموقة طريقها إليها لتنقل لنا صوراً مباشرة عن سوداوية الحياة وعبثيتها هناك في أحياء ما بعد "السكة الحديدية".
فإذا ما فكرت في اجتياز عتبة "السكة الحديدية" وضربت بعرض الحائط كل تلك الأصوات المحذرة لك بعدم زيارة تلك الأحياء ما بعد الساعة العاشرة مساءً، فسترى نفسك في مدينة أخرى، في مكان مختلف تماماً بكل تفاصيله وسماته عن ذاك المكان الذي لا يبعد ربما سوى شارع أو شارعين عن هذه الأحياء لكنه يتميز بكل تأكيد بكونه محرراً من لعنة "السكة الحديدية" كونه يقبع خارج نطاقها.
واسمحوا لي هنا أن أروي لكم تلك القصة الغارقة في غياهب الصمت والظلام، قصة المدينة الأخرى، قصة الشطر الحزين لمدينة الإسكندرية، بدايةً وعند زيارتك الأولى لأحياء ما بعد "السكة الحديدية" فسيسرقك الرتم السريع للحياة هناك، فكل شيء يسير بسرعة، أفواج الناس التي تمشي على عجل، وكأنها تأخرت عن موعدٍ ما، أصوات الباعة المنتشرين في كل مكان والتي تتسابق فيما بينها، وكأنها في ماراثون عالمي لتصل إلى مسامعك قبل غيرها، السيارات والباصات الضخمة التي تشكل بمعظمها كتل حديدية ضخمة جارت عليها خيبات الحياة فشوهت معالمها وحولتها إلى أشباه باصات تملأ باحات محركاتها وأبواقها المتعبة ما تبقى من حيز سمعي لم يغتصبه صوت الضجيج بعد. حاويات القمامة المتخمة بأطنان الأوساخ المستلقية تحت أشعة الشمس على مساحات تبعد عن الحاوية بعض الأمتار، وكأنها تستمتع بالبرونزاج الطبيعي تحكي لك الكثير عما ينتظرك في هذا المكان.
أما عن الشوارع، فمعظمها لم يذق طعم الإسفلت منذ عقودٍ طويلة، وهذا الأمر لا يحتاج إلى مهندس مدني أو مخطط طرقات ليكتشف تلك الحقيقة، فبرك الوحل ومسابح المياه النتنة تتربع وسط الشوارع، وحتى الأزقة الضيقة والشوارع الخلفية، كل شيء في أحياء ما بعد "السكة الحديدية" يجعلك تشعر بالعبثية والضياع، حتى القطط التي تسرح وتمرح تنظر إليك بحذر، وكأنها تقول لك ما الذي جاء بك إلى هنا تهرب وأسرع في الهروب قبل أن تعتاد على سخط هذا المكان وتصبح جزءاً منه؟!
وعن سكان أحياء ما بعد "السكة الحديدية"، فهم بالمجمل أناسٌ طيبون بسطاء يصارعون للبقاء على سطح هذه الكرة الأرضية الذي ربما أصابهم دوارها بالغثيان والقيء، يتمايزون فيما بينهم ككل البشر فمنهم الطبيب والمهندس والمدرس والطالب الجامعي وبائع الخضار والجزار، منهم الطيب والكريم، ومنهم الشرير وعديم الخلق، كما الفطرة الطبيعية للبشر التي جبلت على الخير والشر.
وعني شخصياً فأنا أفضل دائماً زيارة هذه الأحياء والتواصل مع أهلها الأشاوس الذين لا يبرحون يستقبلوني بتلك العبارة المحببة على القلب كل مرة يرونني فيها "يا سوري.. أحسن ناس والله"، بلهجتهم المصرية الجميلة، وشراء حاجاتي من هناك، ولا سيما بأنك تشعر بأنّ الأسعار هناك أكثر حنية ورأفة، وكأنها تنقل لك معاناة وصعوبة نمط الحياة في تلك الأحياء.
وعما دفعني لرواية قصة أحياء ما بعد "السكة الحديدية"، ففي ليلة المباراة النهائية التي جمعت بين مصر والكاميرون في نهائي كأس أمم أفريقيا 2017، كنت في زيارة هناك، وبينما أمر في أحد الأحياء لفت انتباهي مشهد تعجز كل دور السينما عن نقله وتصويره، خرم ذاكرتي وترك جرحاً عميقاً في قلبي وجعلني أرفع القبعة لهؤلاء الأشخاص، فقد التفّت مجموعة كبيرة من الشباب والأطفال وكبار السن حول شاشات كانت قد وضعت في الطريق في إحدى الساحات الضيقة لمشاهدة المباراة وأصواتهم المرحة التي تفيض فرحاً وأملاً في فوز المنتخب المصري والتتويج بالبطولة تحقن المكان برمته بالفرح، بينما تجاورهم بركة كبيرة جداً من الوحل أشبه ببحيرة إن صح التعبير، والتي تكاد تلامس أقدامهم دون أن يعبأوا بها وكأنهم يقولون لها نحن نستحق أن نفرح، أن نعيش حياةً كالحياة وسنصارع للبقاء.
حبهم للمنتخب المصري جعلهم يسمون فوق كل الظروف للتشجيع والتحليق فوق الغيوم مع كل هدف يسجله صلاح أو عبد الله السعيد، أو كل كرة يبعدها السد العالي الحضري برشاقته وخبرة السنين الطوال، وكل هذا لم يشفع لهم لأن يحتلوا المشهد الأول في المحطات الناقلة لردود فعل المشجعين من قلب مصر، بينما تنقل استوديوهات المحطات التلفزيونية المرموقة ردود الفعل من المقاهي الفخمة والفنادق العامرة بكل وسائل الراحة والرقي دون أن تعبأ لفرح هؤلاء أو حتى تخصص لهم كاميرا رديئة الصورة لتنقل ردات فعلهم الصادقة، وتشجيعهم الذي يشق حناجرهم المتعبة من السعال وذرات الغبار وتعب الحياة.
هؤلاء البشر الطيبون يستحقون حياةً أفضل، يستحقون أن يستمتعوا بشوارع نظيفة ومنظمة، يستحقون العناية والرعاية، يستحقون أن تدار الكاميرات والأقلام والصحف عليهم لنقل وجعهم ومعاناتهم، والعمل على تطبيب الوجع ومعالجة الجرح العميق.
صدقوني لقد تعلمت منكم كيف أسرق الفرح من الحياة، كيف أحارب أوجاعي ومتاعبي بابتسامة ونكتة، كيف أثمن قيمة الحياة، فلا قيمة للحياة دون تحدٍّ و"معافرة" كما تقولون بلهجتكم الجميلة.. ومن قلبي أقول لكم: "معلش"، لكن هذه "المعلش" صادقة وتحمل في كل حرفٍ من حروفها دعوة وأمنية بأن تتحسن أحوالكم، وبأن تصبح الإسكندرية مدينة واحدة برقيها وحضارتها وطيبة أهلها، وكرمهم دون "سكة حديدية" مقيتة تفصل بينهم!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.