أنا مكتئبة، قدمت على إجازة رعاية طفل، والآن أنا أبكي سنوات عمري التي ضاعت في الكلية. أنت تعلمين كم كانت كُلّيتنا صعبة جداً ومهمة جداً.
رسالة أتتني من صديقة لي، قرأتها على مهل أمام شروق الشمس، ذاك الشروق الذي لم أكن أستطيع أن أتمتع به بسبب آلام الإحباط والاكتئاب والجري وراء الوحوش منذ عام ماضٍ.
حسناً تعاني من "متلازمة إجازة رعاية طفل".
في البداية تمقتين العمل الذي يحول بينك وبين صغيرك ساعات طوال، وتؤلمك وخزات فطرتك التي تتحرق شوقاً إليه، وكلما نظرت إلى عيونه الحلوة المشتاقة إليك لمُتِ نفسك مرات عدة.
ثم يؤلمك جسدك حرفياً في كل صباح تبتعدين عنه فيه، ويؤلمك جسدك ثانياً إذا ما ركلك بقدميه الصغيرتين تعبيراً منه بلغته البسيطة عن اشتياقه إليك، وتفسرينها أنت سوء أدب منه، فتقررين: هذا صغير مشاكس يحتاج إلى عناية أكثر من ذلك.
فتنتصر فطرتك وتذهبين بكامل قواك العقلية إلى "مدام ميرفت لترسلك إلى أبلة وداد في الدور الرابع امضي منها وتعالي"، تذهبين بعد صراعات جمّة مع عقلك اللاواعي.
لحظة.. هل قلت عقلك اللاواعي؟
نعم هو عقلك اللاواعي الذي يتحكم بك.. عقلك الذي احتفظ منذ صغرك بوقع كلمات المدح المنهمرة على المرأة العاملة التي تمتلك القدرة على الإنفاق بِحُر مالها كما يحلو لها.. تلك المرأة التي يمتلئ منزلها بشهادات مبروزة معلقة على حوائطه كاملة، أو ربما احتفظ عقلك بذلك المشهد المتكرر دائماً مع قدوم كل معلمة جديدة إلى مدرستنا لتسألنا عن مهنة ذوينا ونظرات الشفقة والدونية تملأها حين نخبرها "وأمي ربة منزل"، أو لربما هذا تأثير الإعلام والسينما علينا في صغرنا؛ إذ كانت المرأة العاملة هي "اللي عليها العين" وربة المنزل خادمة تمكث في انتظار أطفالها.
أو أنه من المؤكد أنك خبرت بنفسك "أم وربة منزل" حتى وإن لم تكن أمك أنت، ولكنك مكثت تراقبينها وتتابعين تشكل الخطوط على جبهتها وحول ثغرها، ترين تسلل الشيب إلى رأسها، وبعنفوان شبابك تقررين الفرار من تلك الخطوط وذلك الشيب وحتى ذاك الأرق بهالاته السوداء، ودون أن تدري تصبح تلك المرأة هي أحد كوابيسك التي تخشين يوماً أن تتحولي إليه.
وعلى الرغم من كل تلك المشاهد المخزنة بعقلك اللاواعي فإن فطرتك تنتصر وبكل هدوء تبحثين عن "أبلة وداد اللي في الدور الرابع عشان هي اللي معاها الختم".
وما أن تتسلمي منها تلك الورقة ذات الختم الأوحد التي تخبرك أن عليك المكوث في بيتك لتصبحي "وأمي ربة منزل" حتى ينتابك "اكتئاب متلازمة إجازة رعاية طفل".
حينها تسقطين في ظلام أسود أصم، وكأن منابس الحياة تقف على عتباته لا تبرحه ولا تدنو منه.. ظلام لا يعرف الهواء له مدخلاً ولم تسطع الشمس عبره مروراً.
ولربما نظرت إلى صغيرك فتلومينه على ما فرطت أنت فيه بفطرتك السليمة وضميرك المتيقظ، ولربما قادتك الهلاوس إلى أن تظني أنك أصبحت غير مرئية لا حاجة للعالم بك، وعلى الأغلب ستعانين نقصاً حاداً في فيتامين "الشَّوافان" فيزداد احتياجك الغريزي لكلمات المدح وللأدعية التي لطالما سمعتها من مرضاكِ فيزداد حزنك حزناً.
لكن بمرور الوقت ستنقشع غمتك وسينفرج كربك.. فقط إذا:
فقط إذا تعلمت كيف تجبرين نفسك على النهوض ثانية من غياهب الظلام ذاك.
فقط إذا تعلمت كيف تنظرين إلى أعين طفلك وترين حبه لكِ ينبض نبضاً.
فقط إذا تعلمت كيف تقدرين مكانتك عند صغيرك.. مكانتك التي حصلتِ عليها لا بسبب أفضل الألعاب التي توفرينها ولا أجود الأطعمة التي تقدمينها، ولكن بسبب أنك أُمه.. فقط أمه التي ترعاه وتحنو عليه وتضمه إليها كي يستمد من رائحتك أمانه.
فقط إذا تعلمتِ كيف تستمعين به ومعه وأن تسمعي في صراخه حين تبتعدين عنه رسائل حب جم لك يخشى أن يفقدك ويفقد معك الأمان حتى وإن كان ابتعادك هو لثوانٍ معدودة.
فقط إذا تعلمتِ أن تنظري إلى منزلك "الملخبط" آخر اليوم بعين أخرى.. عين ترى مهارات تطورت وأيادي نمت لتتفقد كل ما كان يبدو بعيداً عنها يوماً.
تسألينني النصيحة.. والحق أقول: إنني لن أخبرك بما أخبروني به من قبل "كل النساء مصيرهن البيت حتى وإن تأخرن بقطار إجازة رعاية طفل"، فحقاً أنا لا تعنيني كل النساء ولا يعنيني مصيرهن، ولكني سأقول لك ما تعلمته من واقع ثلاث سنوات لم تمس يدي فيها أداة من أدوات الأسنان وأنت تعلمين مدى الألم النفسي في ذلك:
انظري إلى أيدي صغيرك كل ليلة واستمتعي بدفء حضنه حتى وإن كان نهاركم عصيباً.. قريباً سينمو هذا الصغير حتى يخجل من حضنك، ولن تعد يده صغيرة لتلمس وجهك، وحينها ستعودين لما تركته ليس حباً للعمل ولكن لملء الفراغ الذي خلفه صغيرك بعده..
أرجوكِ لا تكوني كالسابقات ممن اخترن الفناء من أجل أطفالهن ثم بكين ندماً وحملنهم عواقب تركهن لعملهن، فإن كنت اخترتِ أن ترعي صغيرك حق الرعاية، وأن تكوني أُماً صالحة تربي طفلاً مصلحاً للمجتمع فلا تلوميه فيما بعد.
ولكي لا تندمي أرجوكِ لا تنسَي نفسك.. "لا ضرر ولا ضرار"، أظنك تعلمين هذا جيداً تعلمين واقرئي في مجال عملك الذي تركتيه، واكتشفي مجالات أخرى وهوايات أخرى، واختبري أموراً جديدة في الحياة، واغتنمي فرصة بُعدك عن روتين العمل في أن تعيشي الحياة باستمتاع.
والآن تسألينني كيف علمتِ كل هذا؟
أقول لكِ: لأنني اخترت إجازة رعاية طفل منذ ثلاث سنوات وما زلت "وأمي ربة منزل"، ولكني تعلمت كيف أكون "وأمي ربة منزل بس رايقة قوي".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.