أنا صحفية freelance، يعني أنه يدفع لي بالمقال، أعمل لحساب موقع تابع لراديو عالمي، لكن ذلك لا يشفع لي، فالجلوس في البيت يوازي العطالة في ثقافتنا رغم أنه في الخارج العمل من المنزل شيء طبيعي اختارته العديد من النساء والرجال كذلك، لكن هذا ليس موضوعنا ثم إنني لا أقاوم، أذعنت للثقافة السائدة وأقولها بصوت عالٍ: أنا عاطلة عن العمل وقراءتي في هذه الفترة بالضبط لرواية le job لكاتبها رضى دليل لم تكن بالفكرة الجيدة.
رضى دليل، صحفي ورئيس تحرير مجلة LE TEMPS الأسبوعية، قبل أن يكون كاتباً أو روائياً، عمل هذا الشاب في مجال الحسابات قبل أن يتحول لمهنة الصحافة وهذا ما يفسر ربما مهنة بطله فهو في الثلاثين كعمره تماماً عندما اختار الصحافة، شاب وسيم، يعيش حياة الترف، مسرف وغير مهتم ومتهور.. كأي مغربي في سنه، "لسبب أجهله، نحن جيل لا يأبه بالمسؤولية.. لا نريده".
يذكرني أسلوب رضى دليل في السرد بأسلوب "باولو كويلو"، يشدك حتى تكمل القراءة، "أوصي به كل كسول يمل بسرعة.. مثلي يعني"، حتى تقسيم الفصول مثير ومشوق، غالي هو اسم البطل، جاء للدار البيضاء منذ 20 سنة قادماً من العاصمة الرباط حتى يقطن مع جدته بعد وفاة والدته واختفاء والده عن الأنظار، خصص للمدينة فصلاً عنونه بـ"كازا حكَرة" وحكَرة في العامية المغربية تعني الغبن، وهو فعلاً إحساس الفقير والمغلوب على أمره في هذه المدينة الوحش، التي تفتنك وتفتتنك، تبتعد عنها لتعود لها مهرولاً، فكما قال غالي في الرواية "هناك شيء يميز هذه المدينة يجعلك تقول، هناك الدار البيضاء ثم بقية المغرب".
يغلب على الحكي طريقة الفلاش باك، فالواقعة قد وقعت وفقد غالي عمله بسبب الأزمة الاقتصادية، يتذكر تفاصيل حياته مع صديقه عليّ العاطل عن العمل أيضاً وهو متزوج وأب لطفلة، عكس غالي العازب.
حساسية غالي وانكساره أكبر جاذب للقارئ، رغم أن انكساره وهو الأعزب لا يظهر أمام عليّ بسبب كل مسؤولياته كرب أسرة. تارة كنت أكره غالي وتارة أحبه وتارة أنعته بالأبله، فرغم عطالته، لا يطبخ بالبيت بل يخرج كل يوم ليبتاع الأكل الجاهز، يجلس كل يوم على المقهى، وزاد الطين بلة أن كل مَن يتصل به من أجل مقابلة عمل لا يعاود الاتصال، فدبلوماته العالية وخبرته الطويلة تستلزمان راتباً عالياً، أو أن كرامته لا تسمح له بمعاودة الاتصال ليتفقد أين وصل ملفه فتضيع الفرصة الذهبية أو أن مقابلة العمل كانت من أجل موظف استقبال وقامت السكرتيرة بخطأ وأدرجت اسمه بدل اسم شخص آخر وضيع بذلك يوماً آخر وبصيص أمل آخر، وبصيص الأمل هو ما نعيشه عليه ونحن نقرأ الرواية، نلهث وراء الفرص التي تأتي أمامه قبل أن تتبعها مِحن أكثر، يفقد غالي أيضاً كل أصدقائه المتملقين ولا يبقى سوى علي الذي يعتبر غالي حائط المبكى الخاص به، يحكي ويشكي وفي الآخر سيحمل ابنته وزوجته ويأتي للسكن مع حائطه "غالي".
تتطور الأحداث بسرعة، حتى الحب الذي سيعرفه غالي سيأتي من جهة غريبة، أو لنقل "محرمة"، وهذه عادته فهذه الشخصية المركبة تصرف كي تحب نوعاً ما، ليس قصداً، لكن أي شخص غير معتد بنفسه يعتبر قضاء الغير معه بعض الوقت حسنة يجب أن يجازى عليها، فيسرف هذا الأخير في الدعوات على العشاء والغذاء في مطاعم الدار البيضاء الفاخرة وبعد أن فقد مرتبته الاجتماعية ومدخوله أصبح وقته هو ما يقدمه لمن أصبحوا يقاسمون حياته.
نهاية الرواية صادمة وغريبة، وتسلسل الأحداث الأخيرة متسارع وغير منطقي في بعض الأحيان، كتحوّل علي لواعظ ديني، واقتران تدينه بالتجهم والعنف، عنف سيمارسه حتى على ابنته التي لا تتجاوز الرابعة أو الخامسة والتي سيطلب منها قراءة القرآن كل ما عاد من صلاة الفجر بعد إيقاظها بعنف ثم يضربها إن لم تحضر الفطور، "العبث" هذا ما أحسسته وأنا أقرأ تلك السطور، عبث واستمرارية لصورة رسمها وغلفها لنا الإعلام وطبعناها نحن وها هم روائيونا الشباب يوزعونها.. واااعتبي.. لكن الرواية تبقى شيقة.
رضى دليل يستحق المتابعة وقد صرح بأن بطل روايته المقبلة سيكون كغالي.. موظف في مجال الحسابات.. وشخصية غالي هي الأخرى ستشد القارئ لكن لا ينصح بقراءتها لكل عاطل عن العمل.. فهي لا تبعث عن الأمل، ولا يمكن أن تستخدم إلا كدليل لكل ما لا يجب أن تفعله وأنت مفلس.
|قراءة ممتعة|
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.