قريباً أربع سنوات من الإقامة في كندا، وأتأمل كما يفعل الإنسان بين الحين والآخر الخبرات التي اكتسبتها في الفترة الماضية على المستوى الشخصي والعملي، فيدهشني حجم التغيير الذي مررت به، وبينما أرى العشرات من الأصدقاء والمعارف يسعون جاهدين إلى تحقيق حلم الهجرة، ويستفسرون في حماس عن سبل الوصول إلى هنا، أود أن أخبرهم في خضم فرحتهم الغامرة بعد الحصول على تأشيرة القدوم بأنهم قد بدأوا الخطوة الأولى في مشوار طويل، فالغربة أمر غير سهل على الإطلاق، ناهيك عن تحديات الانتقال لمجتمع جديد لا يعترف غالباً بخبراتك السابقة، ويضعك دائماً في موضع المطالب بإثبات قدراته.
* إليك قارئي العزيز ما تعلمته خلال سنواتي الأربع في أرض الثلوج والأحلام المثالية كندا.
أنت تبدأ من الصفر فعلياً
كندا التي تحتضنك بإحدى ذراعَيها تدفع بك بذراعها الأخرى على المحك، وتوجه إليك دائماً السؤال: مَن أنت؟ ما الذي تستطيع فعله؟ ماذا ستقدم للمجتمع وسوق العمل؟
تعتز كندا للغاية بقائمة مؤهلاتك السابقة ولكنها يندر أن تعترف بها، وإن فعلَت فسوف تطلب منك غالباً خبرة كندية، يضطر معظم القادمين هنا لدراسة جديدة، سواء في مجالهم أو مجال آخر، لا تيأس ولا تتذمر إن توجب عليك الالتحاق بجامعة أو معهد لسنوات بعد وصولك، فالكنديون أنفسهم يستمرون في الدراسة كبالغين لتطوير ذواتهم، وللتأهل لفرص عمل أفضل.
على الصعيد الاجتماعي أنت أيضاً تبدأ من الصفر أو أسفله، فنجاحك في المهجر يعتمد بشكل كبير على وجودك كفرد ضمن مجموعة قوية تمدك بالمعلومات، وتقدم لك الدعم النفسي، وتساعدك في خطوات حياتك.
وسوف تحتاج إلى مراجع بشرية أثناء مواقف عدة، أهمها التوظيف أو العثور على سكن؛ لذلك حتى إن لم يتيسر لك صناعة صداقات قوية، كن على الأقل لطيفاً مع الكلِّ: زملائك في العمل، جيرانك في المنزل، أو حتى مع الغرباء.
أنت تحت التقييم دائماً
الحرية التي تقدمها المجتمعات الغربية مقيدة بشدة بالتزامك بنمط من التصرفات الحضارية المحسوبة بدقة، ولذلك لا تتخيل أبداً أنك سوف تفلت من العقاب إن أسأت التصرف حتى وإن لم تكن أفعالك مجرمة بحكم القانون، فللمجتمع آليات لتقويم التصرفات غير المقبولة، من أهمها نظام المراجع الذي ذكرناه سابقاً.
في كندا أيضاً، إن لم تكن مالكاً لمشروع خاص أو صاحب مدخرات ضخمة، فأنت دائماً في موقع الباحث عن وظيفة أو الحريص على البقاء في وظيفتك.
ولذلك يرسم الجميع هنا صورة رسمية إيجابية تكاد تكون نمطية عن أنفسهم، ويتظاهر الكل بالتفاؤل والقوة والتكيف مع الحياة.. لا مكان للحزن، ولا مجال للشكوى، ولن تستفيد بالتعبير عن مشاعرك السلبية إلا تجنب الآخرين لك.
في المظهر كذلك لا تلفت النظر بارتداء ملابس جد مختلفة عن الآخرين، أنت حر داخل إطار مصنوع مسبقاً، فحاول تفهم تلك النقطة جيداً، وتذكر أنه لا حرية مطلقة في أي مكان في العالم.
المثابرة والصبر أسلحتك
يأتي معظمنا إلى دول المهجر محمَّلاً بالآمال والأحلام العريضة، ولكن سرعان ما يكتشف أنه واحد من ملايين الحالمين الكادحين في بلده الجديد، وأنه في وجه التنافس الشرس قد لا يجد مكاناً له بالسهولة التي كان يتصورها.
وقد يتعقد الوضع أيضاً إذا وجد الشخص أنه لا يمتلك المهارات الكافية للبقاء على قيد الحياة هنا.
أسوأ ما يمكن أن يفعله الإنسان في هذه الحالة هو الإحباط والاستسلام، اكتساب مهارات جديدة هو التحدي الأكبر الذي يواجهك هنا فكن صبوراً ولا تتوقع نجاحات كبيرة، ولا نتائج مبهرة في البداية، لكن الاستمرار والمثابرة يثمران حتماً في النهاية، استمر حتى إن تعثرت!
لا تشكك كثيراً
عند قدومك سوف تواجهك خيارات عديدة وأسئلة بلا نهاية بالنسبة للتخطيط لمستقبلك، قد تجد نفسك في دوامة من التساؤلات بشكل يعيقك عن اتخاذ أي قرار.
حاول أن تنظر إلى أي وضع بعقلانية، وتدرس الاختيارات المتاحة، ثم تمسك بقرارك بعد التفكير والتخطيط، قد يقابلك الكثير من المشككين والمعارضين لاختيارك، فلا تلتفت لهم، فذلك سوف يشتتك بلا داعٍ، وافعل ما تراه صحيحاً تبعاً لمعطياتك فقط.
خطّط أمورك المادية جيداً
قد تتعجب إن عرفت أن الرفاهية المادية هي حلم صعب المنال في كندا، وأن معظم القادمين يضطرون إلى الاستغناء عن خدمات ومنتجات اعتبروها بديهية في بلادهم، بل إن الكنديين أنفسهم ماهرون في صيانة سياراتهم أو القيام بالإصلاحات المنزلية البسيطة لتوفير النقود.
خطّط مصروفك منذ بداية الشهر بحكمة، استعِن بعروض التخفيض، وزُر المتاجر الموفرة، ينبغي على الكل هنا أن يتصرف بحرص بشأن الماديات؛ كي تتسنى له الحياة دون قلق أو ضغط نفسي.
وبذكر القروض احرص جداً على ألا تتراكم عليك الأموال في بطاقات الائتمان فما أسهل أن تنفق بضع مئات من الدولارات شهرياً فوق دخلك بإغراء دفعها لاحقاً ثم تؤجل التسديد حتى تتراكم عليك فوائد القروض، استخدم بطاقات الائتمان بتقنين لغرض بناء تاريخ ائتماني قوي، وهو أمر مهم في كندا لشراء سيارة أو منزل بالتقسيط لاحقاً.
لا تتوقف عن العمل أو الدراسة أو التطوّع
تتيح لك إقامتك في كندا فرصاً جديدة لترقية الذات؛ لذلك استثمر كل لحظة للاندماج، واكتساب خبرات مفيدة، ومن واقع خبرتي هنا وجدت أن ترتيب الأولويات ينبغي أن يكون العمل ثم الدراسة ثم التطوع، وقد يتغير هذا الترتيب على حسب الخيارات المتاحة لك، لكن لا تفكر أبداً في خيار بقائك في المنزل، وانعزالك فما أسهل أن يعتاد الإنسان الكسل والمجتمع الكندي لا يقدر إلا كل ناشط.
لسانك حصانك
التواصل الناجح هو مهارة مهمة وسوف تحتاجها كثيراً في كندا، سواء حديثاً أو كتابة، اختَر كلماتك دائماً بعناية وحرص، فيجب أن يعبر لسانك عن أمرين، أولهما تفاؤلك وإيجابيتك، وثانيهما تبنيك للقيم الكندية، كن حريصاً جداً على ألا يتضمن حديثك أي إشارة عنصرية أو انتقاد لمجموعة بشرية فالمشاركة والمساواة والتعددية قيم كندية أساسية.
في مجال العمل لا تجعل حديثك سطحياً، ابحث عن التفاصيل وأبرز المعنى والقيمة خلف كل نقطة، خاصة إن كنت تتحدث مع رئيسك، فأنت تريد دائماً إيصال رسالة مفادها أنك كفء وجدير بالثقة وتعلم ما ينبغي فعله، احتفظ بترددك وسلبيتك وضعفك الإنساني للأصدقاء المقربين فقط!
خلاصة القول:
خُذ الأمور بجدية، تعلَّم، طوّر مهاراتك بالتدريج، اصبِر، قاوِم، تفاءَل، لا تهوّل المصاعب، ولا تهوّن من التحديات، كن إيجابياً دائماً، فكر بعقلانية، تعلم بهدوء من أخطائك، لا تتكاسل بالتسويف، ولا تجلد نفسك بالمطالبات الكبيرة، اخفض من سقف توقعاتك واجتهد.
مرحباً بك في كندا.. أرض الكفاح.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.