كأنثى في بدايات العقد الثاني من عمري، لم أرَ طريقاً آخر سوى أن أكسب دخلي بنفسي، قد يبدو هذا غريباً لفتاة ما زالت تدرس في المرحلة الجامعية، ولكنه كان القرار الأصح.
علمونا في درس التاريخ: "مَن لا يملك قوت يومه لا يملك قرار أمره"، وقد أدركت هذا المعنى حديثاً. الخروج من سلطة الأهل والزوج، بل والمجتمع أحياناً، يتطلب طاقة نفسية ومادية كبيرة.
لنبدأ من الأنا العليا؛ حيث يسكن غرورنا، حين كنت صغيرة لم يخادعوني وطلبوا منّي أن أطلق العنان لخيالي، فكرمت من قبَل إدارة المدرسة، وشاركت كرئيس لفريق الإذاعة لثلاث سنوات متتالية.
وبدأت الأمور تتغير؛ في المرحلة الإعدادية والثانوية لم أجد مَن يحلم، كان الجميع يحاولون أن يصبحوا نساءً! لم أعلم كيف يمكن لي أن أصبح مثلهن، واخترت العزلة عن مجتمع لم أفهمه، حتى تم ترويض أحلامي على نار دافئة لتقتصر على دخول كلية عليا (الطب أو ما يشابهها) لإيجاد العريس الغني المناسب، رضخت لما تمليه عليّ الظروف والتحقت بالفرقة الأولى لكلية الطب البشري.
تصارعت وتعالت أصوات أخرى بداخلي: لِمَ هم متشابهون؟ لِمَ لمْ ألتحق بكلية الإعلام كما أريد؟ هل يجب عليّ أن أتزوج طبيباً مثلي لتكتمل دورة تكاثر القطيع؟ وغيرها الكثير من الأسئلة والافتراضات التي لا يتسع الحديث لها هنا.
القصص لا تنتهي هكذا عادة، لأول مرة في الجامعة تعرفت على العمل التطوعي، وجدت مَن يشبهني ليس تماماً كما أريد، ولكن بدأت قدراتي على التعايش في مجتمع ما تظهر ومعها القيود.
بعض القيود كانت اجتماعية مثل طريقة الملبس أو مواعيد الرجوع للمنزل، ويتم تجاوزها ببعض الحيل البسيطة، أما الحواجز الأكبر كانت السمعة والعلاقات العاطفية والسفر والمصروف الشهري الذي لا يشبع فضولي في التنقل وتجربة الجديد.
أوقفتني فكرة عابرة ، لِمَ لا أكسب قوتي بنفسي؟ لمَ لا أعيش مستقلة دون أن ترتبط حياتي بقواعد وضعها أطراف آخرون لتسيير حياتي التي لا يجني عِنَبها وزقّومها غيري؟ وبدأت في المضي قدماً نحو تلك الطريق.
في البدء سيوقفك الأصحاب بحجة: كيف يمكنك مزامنة الدراسة والعمل معاً؟ وهم لا يعلمون أن هذا هو الطبيعي خارج بلادنا التي تستعبدك بالتبعية حتى تجد عملاً وتضيع من عمرك الكثير.
ثم سيوقفك الأهل بما يملكون من قوة بحجة: الدراسة، وما خفي ليس كذلك. يخاف الأهل من ردة فعل المجتمع لفتاة تعيش وحيدة دون أهلها، يخافون قوتها وتشبّهها بالرجال، وما يلحق بسمعتها من عوالق مريضة في مجتمع مليء بالعلل، هم يخافون على أنفسهم أيضاً وما سيلحق بهم من اللوم وربما النفي المجتمعي جراء ما فعلته ابنتهم ولا يمكن لومهم، فهم بشر.
بجانب المجتمع، فإن تلك الفعلة تخالف معتقداتهم صراحة، المجتمعية منها قبل الدينية، حيث تكون الفتاة ملكاً لأبيها إلى أن يأتي الرجل الآخر ليأخذها إلى بيت آخر دون فاصل في المنتصف. هم يرون أن الفتاة تولد تابعة مجندة لخدمة الرجال من الإخوة والآباء ثم خادمة وشريكة جنسية للزوج الذي لم يأتِ بعد.
قد يأتي الهجوم من الحلفاء، وتثبط الهمة من تلقاء نفسها خوفاً من الفشل أو العالم الخارجي، أو حتى الخروج من الأسرة والمجتمع إلى جديد قد لا نندمج معه ولا نعلم عنه شيئاً. تختلف الظروف من فتاة لأخرى وقليلات هن اللاتي يحاولن كسر السلسلة، وإذا نجحن فستهاجمهن بنات جنسهن؛ لأنهن فقط اخترن "أن يكنّ أحراراً".
اخترت أن أكون مستقلة نتاج تفاعل كل ما سبق، ولرغبة قوية في اختبار حياة غير مسيَّرة من قبَل أحد؛ لأنني أريد أن أتزوج رجلاً يحبني لا ليؤدي سُنة الحياة؛ لأنني أريد أن أختار عملاً دون دافع من اجتذاب العريس المناسب، عملاً مناسباً لمؤهلاتي.
لكسر سلسلة العبودية المشينة للمجتمع وتقاليده، لمحاولة أن أكون إنسانة بدلاً من أنثى فقط.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.