قرار ذهابك إلى طبيب يحتوي على مخاطرة كبيرة جداً أشبه بالمقامرة، أنت تراهن بحياتك وبصحتك على مدى اجتهاده في استذكار دروسه ومواظبته على تطوير نفسه، والقراءة في مجال عمله باستمرار بعد تخرجه في الجامعة، وأنت أيضاً كمريض -لم تدرس الطب غالباً- تجهل الفارق بين التخصصات الكثيرة جداً المختلفة، وقد تشعر بالحيرة الشديدة أحياناً، وتعجز عن تشخيص نفسك مبدئياً في بعض الأحوال، أنت تشكو من وجع في البطن مثلاً أو غثيان بشكل شبه دائم أو صداع، فتبدأ في تخمين أن شكواك لها علاقة بأمراض الباطنة وتقرر الذهاب لطبيب باطنة، في حين أن هذا من الممكن أن يكون عرضاً جانبياً بسيطاً لمصيبة أخرى كبيرة ليس لها علاقة بمشاكل الباطنة.
ولأن علم الطب بحر واسع جداً مثله مثل باقي العلوم الطبيعية يعجز إنسان واحد عن استيعاب خفاياه وأسراره بالكامل، ولأننا أيضاً في مصر والمصريين يعشقون الفتي عموماً في كل المجالات والأطباء ليسوا استثناء عن القاعدة، فستجد أن هناك أطباء على استعداد تام فعلاً أن تفتي في غير تخصصها وتقتلك.
هذا أهون لديهم بكثير من أن يخبرك أحدهم أن هذا ليس تخصصه، أو يصارحك أنه غير قادر على تشخيص حالتك بدقة، وينصحك بأمانة أن تذهب لطبيب آخر صاحب تخصص آخر درس تلك الجزئية من جسد الإنسان بشكل أكثر استفاضة، كبرياؤه كطبيب في أغلب الأحوال لن يسمح له أن يعترف بقلة معرفته، أيضا نحن كمصريين عموماً لا نحترم كثيراً من يقول لا أعلم باستفاضة عن تلك الجزئية في مجالي، رغم أن التخصص الدقيق في أي مجال علمي شيء مهم، ومن قال: "لا أعلم" فقد أفتى، ولكننا نعتبر تلك الأقاويل كشعارات رنانة نرددها ولا نقتنع بها أبداً، أكثر من مرة مثلاً يطلب منّي قريب لي تقسيم قطعة أرض معماري، باعتباري مهندساً مدنياً، أخبره أن هذا ليس تخصصي وليس مجالي بالضبط، وأنصحه بصدق أن يذهب إلى مهندس معماري ليقسمها له بشكل أفضل فينظر لي بسخرية شديدة، وأنا أعلم أنه قد صار يراني الآن مهندساً حماراً نوعاً ما، وستظل تلك فكرته عنّي إلى الأبد.
نعود إلى موضوعنا، بعد أن خمنت أنه قد يكون لديك مشكلة خاصة بأمراض الباطنة، الخطوة التالية تأتي، البحث عن طبيب جيد، تذهب إلى صديقك واسع المعرفة جوجل وتطلب استشارته وسؤاله عن "أفضل طبيب باطنة في مصر"، تثق في أن جوجل عليم وخبير طبعاً بكل شيء وسيدلك على الطبيب المناسب، جوجل يرشح لك في نتيجة البحث الأولى منتدى "فتكات"، تفتح منتدى "فتكات"، وهو منتدى نسائي – لمن لا يعلمه – غريب ومريب جداً، تجمّع سري للسيدات والسوبر ماميز أشبه بتجمع فيلم "نادي القتال" يتبادلن فيه الخبرات ويحتوي على إجابات لكل أسئلة الكون، وقد افتضح أمره للعوام المتطفلين من أمثالي مؤخراً، يتم تقسيم العضوات فيه على حسب الأقدمية والخبرة والعطاء في المنتدى، ويتم إعطاء العضوات فرصاً للترقي ورتباً شرفية مثل رتب الجيش والشرطة بالضبط، العضوة الجديدة في المنتدى رتبتها "فتكات جديدة" وهى أشبه بصول في الجيش، ثم الرتبة الأعلى "فتكات متميزة" وهى أقرب إلى رتبة ملازم أول مثلاً، وهكذا.."برنسيسة فتكات"، ثم "فتكات ست الكل"، ثم "ملكة فتكات"، وأخيراً "سوبر فتكات"، "سوبر فتكات" هى أشبه بلواء أركان حرب مثلاً، رتبة مهمة جداً وكلمتها مسموعة في المنتدى بشدة.
تقرأ التعليقات على موضوع تسأل فيه إحدى العضوات المستجدات عن "أجمد دكتور باطنة في مصر" يا بنات؟، فتجد أن مدام "حازم حبيب عمري" وهي عضوة رتبتها في المنتدى "فتكات جديدة" تضع تعليقاً ترشح لك دكتور (حفناوي المستكاوي) وتصفه بأنه دكتور روحه حلوة وإيده خفيفة ووشه سمح، لا تفهم ما علاقة إنه روحه حلوة وإيده خفيفة ووشه سمح بمهنته؟ ده دكتور باطنة هو هيعمل إيه بإيده لا سمح الله؟ تنظر إلى رتبتها أسفل اسمها فتجد أنها "فتكات جديدة"، أي أنها مجرد حتة صول، يعني حديث الخبرة ورأيه لا قيمة له، فتقرر تجاهل تعليقها وطبيبها "المستكاوي"، وتقرأ التعليق التالي لمدام "عطر الجنة الفواح"، التي ترشح لك دكتور "عريان البلبوصي"، تنظر إلى رتبتها، فتجد أنها "سوبر فتكات"، تطمئن نفسك بأنها رتبة كبيرة في المنتدى وأكيد خبرة وعارفة هي بتقول إيه، تقرأ بعينيك سريعاً باقي التعليقات، فتجد أن الجميع يمدح في البلبوصي فعلاً، وبيقولوا إنه سرّه باتع، وتقرأ تعليقاً لمدام أشكيناز تدعو فيه للدكتور بلبوصي عشان "ريح جوزها على الآخر".
تبحث على الإنترنت عن بروفيسور "عريان البلبوصي" ومؤهلاته كطبيب، فتجد أن الرجل يمتلك كماً هائلاً من الشهادات العلمية والزمالات الحاصل عليها من الخارج، وخصوصاً بريطانيا وألمانيا، يساورك الشك قليلاً من كم تلك الشهادات العلمية ومدى أهميتها فعلاً، وكيف وجد الوقت الكافي؛ ليحصل على كل هذا العدد من الشهادات؟ تتذكر محاولتك الأولى لعمل (سي في) محترم بعد تخرجك في الجامعة كعديم الخبرة في مجالك، وأنت تكتب بمنتهى البؤس في سيرتك الذاتية أنك حاصل على الشهادة الدولية لعلوم الحاسب الآلي (آي سي دي إل)، وهي شهادة عبيطة جداً، لكنك تظن في قرارة نفسك أن اسمها يبدو فخماً وشيكاً وراقياً بما يكفي للضحك على الزبائن وإعطاء ثقل ما لسيرتك الذاتية، تشك في أن شهادات البلبوصي في الطب قد تكون مشابهة لشهادة علوم الحاسب الآلي التي حصلت عليها، ولكنك في النهاية تستغفر الله على سوء الظن بالدكتور العلامة الجهبذ البلبوصي، وتقرر التوكل على الله والذهاب إليه وخلاص.
وبعد طبعاً السماجة والرذالة والألاطة المعتادة من التمرجية في العيادة، وانتظارك لساعات طويلة لخمسين كشفاً قبلك، تدخل وتقابل الوحش الكبير وأسطورة الطب البشري بروفيسور "عريان البلبوصي" بنفسه، تتوقع أن تجد أمامك عملاقاً ما يليق مظهره باسمه المهيب، ولكنك تفاجأ بكهل عجوز تبدو على وجهه أمارات الطيبة والبراءة والزهد في الدنيا يذكرك بغاندي وبالكاهن العجوز زوسيما في رواية "الإخوة كارامازوف" فتشعر بالمزيد من الأمل، وتقول بينك وبين نفسك: "الدهن في العتاقي برضو"، على الأقل حتى لو لم ينجح في علاجك، فيمكنك أن تحكي له باستفاضة عن شكواك، وأن تسأله أسئلة ساذجة غبية عن أعراض المرض ومدى خطورته كما يحلو لك، وسيستمع لك في صبر، فهو في أغلب الأحوال ليس لديه متابعون كثيرون على الفيسبوك يفضحك أمامهم؛ ليجلب ضحكاتهم ويستجدي رضاهم بحكايات سمجة ثقيلة الظل يظن أنها مسلية ومضحكة جداً عن مرضاة الأغبياء وأسئلتهم البديهية المتخلفة، التي تنمّ عن جهلهم العميق بمهنة الطب.
يقوم من على كرسيه من خلف مكتبه ببطء؛ ليكشف عليك، فتفاجأ بأنه يرتدي شبشب حمام يريح به قدميه خلال الساعات الطوال التي يقضيها في العيادة، فيؤكد لك هذا مدى زهده في الدنيا وبساطته، وتشعر بالشفقة عليه كأي مسن عجوز تراه يعبر الشارع أمامك، يضع السماعة على صدرك وظهرك، يطلب منك أن تسحب نفساً عميقاً وتخرجه ببطء، ثم يحرك سماعته على جسدك، فيقتلك الفضول لتعلم ماذا يفعل وماذا يسمع بالضبط؟، ترغب في الضحك بشدة، وترغب في إخباره بسرك الأعظم، "إنك بتغير وكفاية والنبي زغزغة ولعب بقى بالسماعة يا عم الحج، الله لا يسيئك"، ثم يخبرك حين ينتهي على طريقة الفنان حسين رياض في الأفلام القديمة ليطمئنك: "لاء عال عال، صحتنا عال، ما شاء الله"، تشعر أنه بيشتغلك نوعاً ما، ولكنك تبتلع الاشتغالة مضطراً، كما أنك تشعر أيضاً بالأسف الشديد لنفسك إنك طلع ما عندكش حاجة خطيرة فعلاً كما كنت تتصور، كنت تتمنى أن يخبرك أنه باقي لك ثلاثة أسابيع بالضبط مثلاً وتموت، أي شيء تراجيدي مأساوي من هذا القبيل يضفي قليلاً من التغيير والإثارة على أحداث حياتك الروتينية المملة البائسة.
يكتب لك البلبوصي علاج "حبيبات فوارة وأقراص"، تعود إلى منزلك تتناول عشاءك المفضل بيض بالبسطرمة وفول بالزيت الحار، وتأخذ الدواء الموصوف لك، تلبس زعبوطك على رأسك وتنام على السرير، وتبدأ في تأمل أحداث يومك قبل النوم كعادتك، تشعر فجأة أن هناك شيئاً ما ثقيلاً جداً بدأ يجثم على صدرك وبشدة، وأنت على فراش الموت تتذكر اقتراح مدام "حازم حبيب عمري"، صول منتدى فتكات، وأنها ربما كان عندها حق في ترشيحها للدكتور "حفناوي المستكاوي"، تشعر برغبة شديدة في الاعتذار لها وللدكتور "حفناوي المستكاوي" على سوء الظن بهما، ولكن بعد فوات الأوان، ربما في حياة أخرى، معلش.
وأخيراً تذهب إلى النفق الأبيض الذى يذهب إليه الجميع، تشعر براحة عجيبة وأنت في النفق تجعلك تتذكر تعليق مدام أشكيناز عن البروفيسور بلبوصي، وتتفهم الآن وصفها له بأنه "ريح جوزها على الآخر"، تظن أن الموت ليس بهذا السوء الذي كنت تتصوره في الدنيا، وربما أن البلبوصي الحكيم قد نظر إلى عينيك وأنت تشكو حالك له وفهم…. فهم أن داءك الحقيقي في تلك الدنيا هو الملل والشعور الدائم بمدى سخافة الحياة، وأن لا شفاء من هذا الداء سوى بالموت فعلاً، وقد فعل ما يستوجب راحتك، وما يمليه عليه ضميره كطبيب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.