في المدن البائسة التّي نرتادها في بلادنا تضجّ الحياة بما هو مُعتاد: من هرولة في الشّوارع والحارات خلف لقمة العيش، الوقوف في طوابير الخبز والمصالح الحكوميّة بالسّاعات، البحث عن عروس ترضى منّا بزهد العيش، نؤدّي صلوات معظمها كي نستريح منها -لا نستريح بها- نفتّش عمّن له في رقبتنا دَين أو جَميل نَرُدّه إليه، نسعى محاولين التّوفيق بين الزّوجة والأمّ، نشاهد مباراة كرة القدم لفريقنا المُفضّل، ونتوق إلى إجازة نسرقها بين هذه الفوضى المحيطة بنا؛ كي نريح أنفسنا قليلاً من اللّهث خلف الحياة لمحاولة اللّحاق بها.
أمّا في مُدن الحبّ والحرب فالحياة غير الحياة! وإن بَدَت متشابهة؛ فالأفكار والمشاعر مختلفة بالكلّيّة عن مشاعرنا وأهدافنا، فكلّ شيء فيها يختلف عمّا تَعيشهُ تلك المُدن البائسة التّي نَسكُنها ولا تسكننا. عن مُدن الحبّ والحرب أتحدّث، عن كلّ المدن المنكوبة التّي هدمت بهجتها الحروب والنّزاعات، عن تلك التّي تنام وتستيقظ على أصوات القذائف والطّائرات التّي تهتك حرمتها: عن حلب الشّهباء ومدن سوريا المكلومة، عن غزّة والقدس، عن بغداد، عن اليمن السّعيد الذّي لم يَعُد كذلك، والقائمة تطول.
عن مدنٍ أصبحت الحرب فيها نشاطاً يومياً وواقعاً يجب التّأقلم معه؛ لينقلب همّ الحياة فيها إلى غايات أسمى وأرقى، غير التي نسّعي (نحن) خلفها. عن مدنٍ تهون فيها الأنفس والأموال أمام الدّين والأرض والعِرض، عن مدنٍ تُصبح فيها بلحظة مهجّراً ولاجئاً أو نازحاً بالشّوارع، والأحبّة الذّين كنت تستظلّ بهم أصبحوا أشلاءً، عن مدنٍ فيها الصّبية والأطفال لا يعرفون طعم اللّعب والتدلّل فلكلّ منهم همّ وقضيّة، عن مدنٍ لم يَعُد همّ الرّجل فيها بناء بيت أو شقّة للزّوجيّة؛ كيف له أن يفكّر في بناء بيت والمحتلّ يدمّر المدينة بأكملها؟ فقضيّته وهمّه بناء الوطن وردع المُحتلّ الذّي يدنّس أرضه وعِرضه، عن مدنٍ تجد فيها قصص حُبّ نشأت ونهضت من تحت أنقاض المنازل جرّاء قصف الطائرات وفوهات المدافع، عن أفراح لم يُكتب لها أن تتمّ؛ فتجد عروساً في ليلة عُرسها تنتظر عريسها وبلحظة يُزفّان إلى الشّهادة.
وغيرها من قصص الحبّ تحاول النّجاة وسط مدنٍ غارقة في الموت والغبار والأشلاء والدمّ، تستطيع اعتبار نفسك محظوظاً إذا خرجتَ منها على قيد الحياة، فما بالكم بشخص يريد الخروج منها على قيد الحياة والحبّ معاً؟! إنّها الثّنائيّة الأزليّة نفسها، الحبّ والحرب، هاتان الكلمتان اللّتان وإن بدتا للوهلة الأولى متناقضتين وعصيِّتين على الاجتماع معاً، سندرك للمفارقة أنّهما ربّما كانتا الكلمتين الأكثر ارتباطاً على مرّ العصور، فالحبّ في زمن الحرب أشبه بالملاجئ المحصّنة التّي نهرع إليها في أوقات الغارات على المدن التّعسة، وهو في تلك الحالة ليس اختياراً بقدر ما هو احتياج، فعلى قدر ما تولِّده مأساة الحرب من دمار وقتل، تُوَلِّد أيضاً رهافة حسّ يشعر الإنسان معها أنّ قلبه ممتلئ بالحبّ.
فأكثر علاقات الحبّ صدقاً وترابطاً، تلك التّي تنشأ وسط ويلات الحروب ومعاناة المِحَن والأسْر؛ في اللّحظة التّي يُراد أن يتمّ فيها دحر وقتل كل نبض وأمل، تزداد العلاقات تماسكاً وقوّة.
في المشفى الميداني كان يصرخ قائلاً: "لا تقطعوا رجلي! إلّا ما تلاقوا طريقة غير البتر يا دكتور منشان الله"… ليستسلم جسده بعدها لإبرة المخدّر.
عندما استيقظ، شيء واحد فقط كان عاجزاً عن فعله، وهو كيف يخبر خطيبته التّي يحبّها أنّ قدمه قد بُترت، لم يخَف من واقعه القادم، ولا كيف سيُكمل بقيّة حياته بقدم واحدة، وحدها خطيبته كانت محور تفكيره، وكان يقول: "ألا يكفي وجعها وألمها؟ كيف لي أن أُخبرها بما حصل لي؟ تبّاً لهذا الحصار اللّعين!".
خطيبته تُقيم في لبنان مع عائلة سوريّة لاجئة بعد ما تنقلّت بين عدّة أماكن، تعمل في تنظيف المنازل رغم أنّها خرّيجة جامعيّة. كانت في دمشق، اعتُقلت لفترة وبعد إطلاق سراحها هربت ولجأت إلى لبنان. حينما وصلها الخبر، كان كالصّاعقة عليها، ظلّت تحاول حتّى استطاعت الاتّصال به، فأنكر لها ما حصل مؤكّداً أنّ هذا مجرّد إشاعة، وأنّ إصابته طفيفة.
لكنّها علمت من أقارب لها حقيقة ما حصل ولم تخبره بذلك، وتابعت معه وكأنّ شيئاً لم يكن، وبدأت تطلب منه الخروج من تلك المنطقة المحاصرة مهما كلّف الأمر، كانت تتحجّج أنّها وحيدة وتحتاجه إلى جانبها في الغربة، فهي تعرف أنّه لم يتبقَّ له أحد، فجلّ أهله ماتوا في القصف وما تبقّى ما بين معتقل ولاجئ، كان إصرارها يزداد مع كل اتّصال، فيما كان خوفه من قول الحقيقة لها أيضاً يزداد، وكان أكثر ما يخاف أن يصبح عبئاً عليها حين يصل إليها؛ فهو بات عاجزاً.
بعد مرور حوالي ثمانية أشهر، اتّصلت به وهدّدته بالرّحيل إلى دول اللّجوء وانقطاع اتّصالاتها به إنْ لم يأتِ إليها، خاصّة أنّ الخروج من الحصار أصبح ممكناً. حين استجاب لطلبها وأتى إلى لبنان، كانت الأفكار تجول في رأسه عن ردّة فعلها حينما تراه وتشاهد ما حدث له، وكيف سيعيش معها في بيت تسكنه أسرة ثانية، وكيف سيؤمّن مصاريفه ومصدر دخل لهما؟!
حين أتته، كان المشهد مغايراً لما كان يعتقد، حيث يقول: "ركضتْ نحوي وغمرتني، وكانت تتصرّف بتجاهل تامّ؛ فيما يخصّ موضوع قدمي المبتورة، لم تشعرني للحظة واحدة أنّ الأمر أزعجها، لم تشأْ أن تجرحني، ومن ثَمّ أخذتني إلى المنزل. خلال وجودنا بالسيّارة سألتها إن كانت العائلة السوريّة تعلم أنّني سأسكن معهم، فسكتت مع ابتسامة صغيرة وأدارت وجهها".
ويتابع: "حين وصلت تفاجأت بأنّها استأجرت لي غرفة صغيرة، فيها كلّ احتياجاتي ومن ضمنها كرسيّ متحرّك استطاعت تأمينه من إحدى الجمعيّات، ثم تركتني في المنزل ورحلت بعدما قدّمت لي كلّ ما قد أحتاجه". بعد عدّة أيّام تمّ عقد قرانهما، وانتقلت للعيش معه وكانت المفاجأة أنّها استطاعت من عملها ودعم بعض الجمعيّات أن تؤمّن له ثمن "قدم اصطناعيّة"، وتمكّنت بعد ذلك من تأمين عمل له في أحد المحلّات مناسب لوضعه الصّحّي.
سألها مُجري الحوار سؤالاً قاسياً نوعاً ما: "ماذا لو كان الأمر معاكساً؟ هل كان سيفعل نفس ما أنتِ فعلتِ؟ هل سيكون وفيّاً كما أنتِ الآن؟"، فأجابت: "عندما خرجتُ من المعتقل وقف والدي بين أهالي الحيّ يبكي ويقول إنّني جلبت له العار…" حينها كان هو واقفاً وقال لوالدي: "… ابنتك تاج فوق رأسي ورأس كلّ أهالي هذه المنطقة وكانت تقوم بمعالجة الجرحى والنّساء والأطفال، إذا أنت ترى ما حدث معها عاراً فأنا أراه شرفاً على صدري وإذا هي قبلت برجل غير متعلّم مثلي أن يتزوّجها عندها سيكون أجمل خبر أسمعه في حياتي…" كلماته هذه وحدها كفيلة لي أن أقول لك أنّه سيفعل ما فعلتُ وأكثر.
فيا أهل المُدن المُسوّاة بالأرض المرفوع ذكرها حتّى السّماء، بُثّوا بعضاً من نخوتكم فينا، جرِّدونا من أطماع الدّنيا وأحيُوا ذكر الآخرة فينا، أرونا طريق العزّ وذكّرونا بمجد خالد وعقل؛ لأنّنا نسينا، هزّوا أسِرّة نومنا وأيقظوا ضمير الأمّة فينا، ولا تحكموا علينا بأخطاء حاكمينا، فجُلّ شعوبنا تقدّس تراب أحذيتكم التّي تستصرخ النّخوة فينا. والله إنّنا نتقرّب إلى مولانا بحبّكم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.