طرحت إحدى صفحات موقع "Facebook" سؤالاً مضمونه: لماذا يتمنى الشباب العربي السفر إلى دولة علمانية، في حين أنه يرفض إقامة الفكر العلماني في بلده؟!
وهنا تتنوع الردود باختلاف الفكر، فنجد الحشد قد انقسم، وأشاد البعض بالفكر العلماني، وإقامته في بلدهم الأم، وآخرون أسندوا ذلك إلى عدم اتفاقهم مع العلمانية بشكل كامل، وأخيراً مَن لا يتفق مع السؤال أساساً، ويرفضه قطعاً. ولكن قبل أن نصطفّ في أحد هذه الجوانب، يجب أن نذهب أولاً إلى الحقبة الزمنية ما بين عامي (750 و1870 م).
كان الشرق والغرب تحت سطوة حكام اتخذوا من الدين ستاراً يواري مطامعهم في الحكم والسيادة، ففي الشرق كان أول مَن سلك ذلك منهاجاً هم حكام الدولة العباسية، متخذين الدين وشاحاً يلتمسون به الغفران لدى الشعوب، مستحوذين على حق الإمامة والخلافة من دونهم، رغم أن ما فعلوه من مذابح جماعية أو قتل فردي لا يمتّ للإسلام بصلة. وكما اعتلوا القيادة بتلك الطريقة المستوشحة بالدين، فما كان نزوحهم عنها إلا بسبب معارك مذهبية أو حتى سياسية، مع مَن نجوا من تلك المذابح، مما قاد البلاد للعديد من الكوارث، أولاها التفكك، والانقسام، وآخرها غزو التتار، وانحسار الدولة في القاهرة بعدما ضمت أراضي من بلاد فارس إلى الأندلس.
وفي ذلك الحين، كان الغرب يعج بمثل تلك المعارك، شعوب وجدت في المسيحية خلاصها، بعد دهور من الوثنية، ورجال دين هم بعيدون كل البعد عن الدين، ولنا في مقتل الكثير من البابوات بسُم كنيسة روما العبرة، يمتلكون السلطة الروحية، راغبين في التملك الزمني، ولا يعرفون سوى المصالح والتطلع السيادي لمعظم أقاليم إيطاليا الحديثة ولا بأس بجنوب فرنسا، غير آبهين بشعوبهم الذين اندثروا بين ثنايا طبقات مجتمع الولايات البابوية.
وكما الحال في الدولة العباسية، بدأ تدهور الولايات البابوية بالصراع الثلاثي الناشب بين بابوات أفينيون وروما وبيزا على البابوية، والذي انتهى بالغزو الفرنسي، ومن ثَم انحصرت سيادة الكنيسة على دولة الفاتيكان.
في رحم تلك الأحداث الصبعة، يخرج لنا مارسيل البدواني بضرورة فصل السلطة الزمنية عن الروحية؛ ليمثل بذلك أقدم التلميحات عن الفكر العلماني.
في هاتين التجربتين طغى الجشع السيادي، والتكالب على الثراء الفاحش على الحكام، ضاربين بالدِّين عرض الحائط، الذي من المفترض أنهم يستمدون شرعيتهم منه، وذلك لا ينفي وجود الورعين والداعين بصدق للدين الصحيح غير المُسيّس، ولكن لا يُسمع لهم صوت – هذا بالطبع إن لم يقتلوا أو يسجنوا – وهو ما يجعل مارسيل البدواني يدعو لفصل الكنيسة عن الملك، فمَن يرى ما فعله رجال الدين، ربما يعتقد أن الخطأ بالدين نفسه؛ لذا وجب تنحيته!
ولكن مع مرور الزمن تغير الفكر قليلاً حول العلمانية، ليقدمها لنا الفيلسوف الإنكليزي جون لوك على أنها ليست في فصل الدين عن الدولة فحسب، بل هي في ماهية الدين من الأساس؛ حيث ذكر أنه "من أجل الوصول للدين الصحيح، ينبغي على الدولة أن تتسامح مع جميع أشكال الاعتقاد دينياً أو فكرياً أو اجتماعياً، ويجب أن تنشغل في الإدارة العملية وحكم المجتمع فقط، لا أن تُنهك نفسها في فرض هذا الاعتقاد ومنع ذلك التصرف. يجب أن تكون الدولة منفصلة عن الكنيسة، وألا يتدخل أي منهما في شؤون الآخر. هكذا يكون العصر هو عصر العقل، ولأول مرة في التاريخ البشري سيكون الناس أحراراً، وبالتالي قادرين على إدراك الحقيقة".
إن جون لوك أسند -في فلسفته- النمو الحضاري إلى الحرية، فهو يصبو إلى توفر النموذج المصلح بشكل فردي، فكل فرد مسؤول عن فعله، وضمن عبثية تلك الفرضية بإعمال العقل الذي يستقي المعطيات ويحللها، ومن ثم يبني النواتج، فهو يرى أن النواتج تتمثل في رؤية الحقيقة.
ولكن ربما يتردد في ذهن القارئ تعريفات أخرى للعلمانية، منها ارتباطها بالإلحاد، أو عدم تبنّي دين رسمي للدولة، وكثيرة هي التعريفات، ولكن ليتضح لنا أمر ربما نغفل عنه أحياناً، وهو أن بدعوتنا للعلمانية لا نقول إن الدين قد فشل، بل إنه -في وطننا العربي- كما رافق الدولة العباسية قتل وتفكك وانهيار، رافقه أيضاً قوة وازدهار ونهضة علمية، ففي تلك الفترة بالذات تولى المُصلح وليس الصالح، فقد قال تعالى في مُحكم التنزيل: "وما كان ربك ليهلك القرى وأهلها مصلحون" فكما ورد في تفسير الطبري أن الله -تعالى- لا يهلك قوماً وهم يصلحون في الأرض، حتى وإن لم يكونوا صالحين.
وفي هذا ليس تبريراً للعلمانية بالدين، بل هو ليس دعوة للعلمانية في الأساس، فإننا إن أدركنا الإسلام وفهمناه حق فهمه لاكتشفنا أنه حقق شروط لوك عن الدين الصحيح، فهو أكثر من يكفل الحريات -التي لا تضر بالمجتمع- وهو أكثر مَن يأمر بإعمال العقل، والتقصي والاستبيان لفهم الحقائق.
إن الدعوة لفصل الدين عن الدولة ما هي إلا حل مؤقت، غرضه عزل رجال الدين الذين أساؤوا للدين ذاته -ربما بالتعصب تارةً، أو طغيان المصالح على المبادئ تارةً- محاولة منا فيما بعد لتركيب المفهوم الصحيح للدين، وتولي الشأن مَن يصلحه، وليس لمجرد من لديه نسب للنبي أو نور الإيمان يشع من وجهه، فما كانت خلافة في الإسلام إلا الخلافة الراشدة، والتي لم يتولّ فيها قريب للنبي -صلى الله عليه وسلم- إلا عليّ -وكان آخرهم- وما بعدها ما كانت إلا ممالك تورث.
وقد استعرضنا في مشهدين دارا في نفس الحقبة الزمنية وتميز حكامها باستغلال الدين لغرس أقدامهم في السلطة، ومن ثم لم يمانعوا القتل، أو الذبح، أو السُّم، وفي الأخير يرمز لهما برجال دين، سواء الحاكم بأمر الله الخليفة المزعوم، أو بابوات الكنيسة.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا لو لم نستطِع فصل رجال الدين (المسيئين له) عن الدولة وتولية مَن يستحق؟ وكيف سيكون الحل إذا ما تمسكوا بالسلطة بكل قوة؟
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.