في ليلةٍ ربيعيةٍ من ليالي شهر مايو/أيار كُنا على موعدٍ مع السفارة الإثيوبية في العاصمة القطرية الدوحة للمشاركة في فعاليات الذكرى الـ27 لليوم الوطني الإثيوبي؛ إذ وصلتنا دعوة أنيقة من الدبلوماسي الشاب تمسقن راقاسا، مسؤول العلاقات العامة في السفارة، لأجل حضور الاحتفال الذي يُقام سنوياً بهذه المناسبة.
ومن المعلوم أن إثيوبيا من أقدم الدول المستقلة في إفريقيا والعالم أجمع، فهي لم تخضع للاستعمار طوال تاريخها التليد إلا لفترة أربع سنوات فقط بداية من العام 1936 عندما اجتاحتها القوات الإيطالية في حملتها على شرق إفريقيا. ولكن المستعمر الإيطالي بييترو بادوليو لم يهنأ بالانتصار طويلاً فسرعان ما استعاد الإمبراطور الإثيوبي هيلا سيلاسي الأول عرشه عام 1941م.
ولعلكم الآن تتساءلون عن كيفية الاحتفال بالذكرى السابعة والعشرين لليوم الوطني طالما أن البلاد تحررت من استعمارٍ قصيرٍ منذ 77 عاماً.
الواقع أن اليوم الوطني الإثيوبي لا علاقة له باستقلال البلاد، فهو احتفالٌ بذكرى سقوط نظام (ديرج) الوحشي بزعامة الديكتاتور منقيستو هيلا مريام، الذي كان يعتبر التعدد العرقي تهديداً لوحدة البلاد، وأطلق حملة "الإرهاب الأحمر"، قُتل فيها ما يزيد على 500 ألف مواطن إثيوبي.. استمر حكم منقيستو لمدة (17) عاماً وأُطيح به في ثورةٍ شعبية عام 1991م تولى بعده الحكم مليس زيناوي الذي يعتبره كثيرون مُفجِّر ثورة التغيير والنهضة في إثيوبيا.
وصلنا مكان الاحتفال الأنيق، وقد اُختيرت له إحدى قاعات فندق "الشيراتون" الفخم المطل على كورنيش الدوحة.. طاقم السفارة بقيادة السفير فوق العادة، المفوض العام متاسبيا تاديسي كانوا في استقبال الضيوف بمدخل القاعة، حرصاً منهم على الترحيب شخصياً بكل الذين لبّوا الدعوة وأتوا لمشاركتهم فعاليات الاحتفال باليوم الوطني.. الموسيقى الإثيوبية الكلاسيكية التي كانت عزفتها الفرقة لتهيئة الحاضرين لأجواء ما قبل الحفل الرسمي أضفَت على الليلة والمكان بهجةً إضافية استحسنها الحضور الكبير المتنوع من كل الجنسيات.. وزراء قطريون ودبلوماسيون من شتى أنحاء العالم بالإضافة إلى أبناء الجالية الإثيوبية وضيوف من الجنسيات الأخرى.
عريف الحفل محمد فيصل، استأذن الحضور في الوقوف استعداداً لعزف السلام الوطني لكل من دولة قطر وجمهورية إثيوبيا إيذاناً ببدء البرنامج الرسمي، ثم استعرض في كلمة قصيرة المقومات التي تزخر بها بلاده، خاصة في المجالات الاستثمارية، وكيف أنها أصبحت تمتلك شركة خطوط جوية هي الأولى من نوعها في القارة الإفريقية. ثم أتاح العريف المجال للسفير ولديجيورجيس ليلقي الكلمة الرئيسية في الاحتفال.
في تلك الأثناء كان الحضور المحتشد يتابع باهتمام الكلمات التي تُلقى على المنصة، ولا أدلَّ على ذلك من التفاعل المستمر مع المقدمة التي ارتجلها عريف الحفل واستخدامه للغة الجسد ببراعة، وعلى الجانب الأيسر من القاعة كانت ثُلّة من فتيات الجالية الإثيوبية قد أعددن جلسة مصغرة لتناول القهوة بالطقوس الشعبية ورائحة البنّ المحمص؛ لتعريف الضيوف بالتراث الإثيوبي، وطريقة تناول القهوة التي تُعد أساسية عند الشعوب الإثيوبية.
السفير فوق العادة، متاسبيا تاديسي ولديجيوريس، استهلّ خطابه الضافي بتوجيه الشكر للمسؤولين القطريين الذين حضروا الفعالية، ومن بينهم د. محمد بن عبدالواحد الحمادي وزير التعليم والتعليم العالي، ومحمد بن عبدالله الرميحي وزير البلدية، والسفير إبراهيم فخرو مدير إدارة المراسم بوزارة الخارجية القطرية، كما حيّا السفير ولديجيورجيس زملاءه الدبلوماسيين وكافة الحضور، مشيراً إلى أن إثيوبيا تشهد فجر حقبة جديدة من السلام والديمقراطية والتنمية، وتبعاً لذلك تتغير البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بصورة هائلة.
ولم ينسَ السفير الإشارة إلى التذكير بأن النمو المتواصل للاقتصاد الإثيوبي جعله يتبوّأ مرتبة عالية ضمن أسرع الاقتصادات على مستوى العالم، ومن أكثر البلدان جذباً للاستثمارات بشهادة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لافتاً إلى أن سد النهضة حال اكتماله سيحقق طفرةً إضافية في اقتصاد البلاد؛ إذ يؤمَّل أن يكفي حاجة البلاد تماماً من الطاقة الكهربائية ثم تصدير الفائض إلى دول الجوار.
في تلك اللحظات استذكرتُ أن الشعب الإثيوبي استجاب لنداءات حكومته عندما مُنع التمويل الدولي عن سد النهضة نتيجةً للخلافات السياسية مع إحدى دول المنطقة. حينها دعت الحكومة الفيدرالية في أديس أبابا المواطنين والمؤسسات الحكومية والمصارف إلى المساهمة في تمويل السد عبر صكوك استثمارية متنوعة، كما فتحت المجال للجمهور؛ كي يُسهم بالتبرعات وقد حققت الحملات المذكورة نجاحاً واسعاً تمكنت معه الحكومة من توفير 3 مليارات دولار لتمويل السد الذي قطع حتى الآن نحو 67% من مراحل إنشائه.
كما تحدث السفير عن الانتقال السلس للسلطة الذي حدث في جمهورية إثيوبيا أواخر مارس/آذار الماضي عندما انتُخب آبي أحمد لرئاسة الحكومة خلفاً لهايلي مريام ديسالين الذي آثر الاستقالة الطوعية من أجل إنهاء الأزمة السياسية التي كادت تعصف باستقلال البلاد في مشهدٍ نادر الحدوث، خاصة في القارة السمراء التي يصر فيها الزعماء على التمسك بالسلطة حتى آخر رمق بحياتهم!
وعرّج بنا متاسبيا تاديسي في تلك الليلة الرائعة إلى مسار العلاقات الإثيوبية – القطرية التي شهدت نقلة نوعية العام الماضي عندما تبادل أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق هايلي ديسالين الزيارات بين البلدين.
وانتهز السفير الفرصة ليوجه الدعوة إلى الحكومة القطرية ورجال الأعمال القطريين إلى الاستثمار في بلاده مُعدداً المقومات الطبيعية والسياحية التي تتميز بها إثيوبيا وكشف عن وجود 15 منطقة صناعية مكتملة وجاهزة للمستثمرين، خاصة في قطاعي الزراعة والصناعة، فضلاً عن مجالات السياحة والفندقة والترفيه.
وهُنا نشير إلى أن مجموعة شركات السليطين للإنتاج الزراعي تمثل أكبر الشركات القطرية التي دخلت السوق الإثيوبية بقوة، إلى جانب بروة العقارية، وهي تنشط في إقامة مجمعات سكنية وبنايات شاهقة في العاصمة أديس أبابا وما حولها من المدن، إلى جانب جهات حكومية أخرى مثل مؤسسة قطر والحي الثقافي (كتارا).
انتهت الكلمة الضافية التي ألقاها السفير الإثيوبي في الدوحة، والتي نالت إعجاب الجمهور لشمولها، ولأنها جاءت مواكبة لنهضة بلاده وتوجهاتها.
بعد خطاب السفير عاد عريف الحفل ليدعو الحضور إلى تناول وجبة العشاء وتذُّوق الأطعمة الشعبية الإثيوبية؛ حيث قُسِّم البوفيه إلى قسمين، أحدهما للأكلات الشرقية مثل اللحوم والمشاوي والسَّلَطات بالطريقة العربية – التركية، والثاني تم تخصيصه للأطعمة الإثيوبية التقليدية مثل الإنجيرا والكيتفو والشيرو وغيرها.
بالطبع اخترت وأصدقائي تناول العشاء من الأكلات الإثيوبية الشهية التي اشتقنا إليها، وعلى الركن الشمالي الشرقي من القاعة تناولتُ القهوة مع السيدة تيهيتنا زيليكي مديرة مكتب الخطوط الجوية الإثيوبية في الدوحة، وقد كانت شركتها العملاقة واحدة من الرعاة المساهمين في الحفل.
وقدمت 3 تذاكر سفر مجانية لفائزين تم اختيارهم عن طريق القرعة العشوائية. حكت لنا تيهيتنا عن توسُّع الشركة وتخصيصها لطائرات B 787 العملاقة لتعمل في خط الدوحة – أديس أبابا وبالعكس. وتفاخرت زيليكي بأن الناقلة حازت جائزة أفضل ناقلة أفريقية، وأنها ستتسلم قريباً الطائرة رقم 100 لتصبح من كبرى شركات الطيران على مستوى العالم.
وإلى جانب القهوة الإثيوبية، كان لنا موعدٌ لا يُنسى في تلك الليلة الجميلة مع نغمات الغناء الوطني والرقصات التراثية الرائعة التي قدمتها لنا إحدى الفرق الشعبية الإثيوبية التي جاءت من البلاد خصيصاً للمشاركة في الليلة.. ليلة الاحتفال بذكرى اليوم الوطني الإثيوبي الـ27، ولاحظنا أن الدبلوماسيين العرب والغربيين من دول أوروبا كانوا الأكثر تفاعلاً واهتماماً بالتراث والإيقاع الإثيوبي الفريد ربما لندرة الفعاليات الإفريقية في العاصمة القطرية الدوحة.
من المؤكد أن طاقم السفارة والجالية الإثيوبية قد نجحا نجاحاً واضحاً في تلك الليلة بلفت أنظار كل مَن حضر الاحتفال إلى النهضة التي شهدتها وتشهدها بلادهم، فضلاً عن تعريف المشاركين بالفرص الاستثمارية والمناخ السياحي الذي تتمتع به إثيوبيا، والترويج للثقافة والتراث الإثيوبي الزاخريْن.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.