حوار دائر بين والدتي وإحدى الجارات القديمات جعلني أنتبه حقاً إلى أن رمضان له وجه آخر غير العبادات، وبالطبع غير قنوات التلفاز المشتعلة ليلاً ونهاراً بلا كلل أو ملل.
ما أثار انتباهي هذه المرة هو مطر الفتاوى التي تتساقط علينا من كل حدب وصوب في هذا الشهر الفضيل، وهل تعتبر هذا ظاهرة صحية أم خللاً يستحق أن نقف عنده ونتساءل عن سببه؟
لماذا في رمضان فقط يصبح الجميع في حيرة من أمرهم، وفي شك من كل شيء يفعلونه أين هم طوال الـ11 شهراً المنصرمة.
أتفهم تماماً أن رمضان تتضاعف فيه الحسنات، والحري بكل المسلمين أن يكونوا في سباق محموم إلى الرحمن. ولكن أنا لا أتكلم عن الطاعات والفضائل هنا، ما أعنيه هو ما دون هذا بكثير، وهي مسائل الحرام والحلال.
ظاهرة طلب الفتوى في رمضان على كل شاردة وواردة، إلا تفضح ولو بشكل بسيط الفجوة التي تظهر إما في وعي الناس وجهلهم أو في ضمائرهم التي تسكت وترضى بعمل نفس ذات الأفعال طوال العام ويشتبه عليها الأمر مع دخول هذا الشهر الكريم.
حسناً لنعُد من أول السطر، ربما يلتبس على قارئ هذه السطور في سبب استنكاري أساساً لشخص يحب أن يتفقه لدينه ودنياه ويستقي ويروى حيرته من منابع أهل الذكر!
سأعود إلى واقعه فارسة ميدان بيتنا "أمي" الحريصة هي والكثير من الطيبات من أمثلها على هذا الأمر أيضاً؛ لنعرف عما كان نقاشها الجاد مع الجارة، السؤال ببساطة هو: هل تجوز صلاة التراويح في المنزل أم لا؟ ولنضع هنا عشرات من علامات الترقيم الحائرة.
وللتنويه فلم يكن الاستفسار بقصد النفور من المساجد أو إنكاراً لما فعله سيدنا عمر -رضي الله عنه- بجعل صلاة التراويح تقام جماعة في مسجد رسول الله، وإنما نظراً لكون المساجد (في بعض الدول العربية وبلدي واحد منها) أضحت ساحة لمعارك المتزمتين والمذهبيين، وربما يصل الأمر إلى نقطه أبعد من هذه، ويمثل التواجد في بعض المناطق الساخنة خطراً على النفس البشرية.
كان الجواب المسكت الذي يمتطي صهوة الإقناع ويشهر سيف الحجة هو "نعم، فلقد أفتى العارف العلامة الحافظ العالم الشيخ بجواز صلاة التراويح في البيت" انتهى كلامه رحمه الله.
هل نسينا أن النبي أدّى هذه السنة الرمضانية المحببة في معتكفة ومنزله على حد سواء، ولا أظن أن سؤالاً مثل هذا كان يحتاج أن يُصدر فضيلته جواباً عليه، وأن تبدد الصحف في كتابته.
وما زاد الطين بلة ما رأيناه مؤخراً، فما كان بالأمس حراماً مستنكراً أصبح اليوم حلالاً محبباً، وعندما كانت تتحدث القلة القليلة من حاملي رايات الفكر والتجديد بأن هذه أمور خلافية من الخطأ البت فيها واستنكار الآخر على فعلها، كانت تلك القِلة تُرمى بسهام العيون الغاضبة المزمجرة، ويطالها ما شاء الله من الطعن في الدين وفي الفهم والاستدلال.
حتى إنه تراءى للكثير أن جلّ فتاوى تضييق الخناق والتشديد وسد الذرائع كانت تخبز بمخابز السياسة التي لا تعرف إلّاً ولا ذمةً ولا تفهم إلا بلغة المصالح ولم تجد قلباً يقظاً تستفتيه، حتى إنها نامت وشخّرت على قلوب الناس أجمعين لعقود طويلة.
ليس هذا وحده هو الشماعة التي نعلق كل ما عانيناه عليها، ولنكن منصفين، فثقافة العامة مررت كل هذا وتقبلته بصدر رحب. نحن نستمتع عندما نرى سطوة هذه الكلمة في عيون من نجادلهم، ونبتهج عندما نرى أننا قد أفحمناهم وأخرسناهم، وقطعنا كلامنا بهذه الكلمة السحرية (الفتوى الفلانية قالت) إذاً فلتُطفأ مصابيح العقول ولتعقد الألسن، ولمَ لا فأنت يا هذا لست أفهم من الشيخ العلامة العارف الواثق المؤيد.
تتباهى دور الإفتاء بأنها أصدرت الرقم كذا وكذا من الفتاوى، وهي لا تعلم أنها لم تزد الرتق إلا توسعاً ولم تزِد الناس ربما إلا حيرة. إن الانقسامات والشكوك لا تؤدي إلا إلى مزيد من انقسامات أصغر وشكوك أكثر. ولا أستطيع أن أفهم هذا الأمر إلا بكونه محاولة عن سبق إصرار وترصّد لتغيب ضمير المسلم الذي يُرجى منه أن يظل حياً، وأن تُعزز حالة إبقائه يقظاً وباحثاً دائماً من قبل رجال الدين لا العكس.
ويتباهى البسطاء بأنهم استبرأوا لدينهم وارتاحت ضمائرهم، ونامت عقولهم المتعبة باستخراج فتوى قاطعة في هذه المسألة أو تلك، ولا يعلمون أن الحلال بيّن والحرام بيّن، وما اشتبه عليك ربما لم يلتبس على غيرك، فاستفتِ قلبك.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.