شباب الألفيات.. جيل مُهدَر في إنسانيته

عربي بوست
تم النشر: 2018/05/26 الساعة 07:15 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/05/25 الساعة 16:08 بتوقيت غرينتش
Sad depressed thoughtful male boy teenager blond child outside using mobile cell phone for texting or social media

يقولون دائماً إننا نحرص على حُسن ظن الناس بنا، وترك صورة حسنة في أذهان من يعرفوننا، حتى لو كانت معرفة سطحية خالية من الالتزامات، ليس لأننا نفوز بكؤوس التميز كل يوم، ولكن لأنه ببساطة شيء مريح للتعامل وأكثر إفادة.. ما الذي نجنيه من التعامل بوقاحة غير المشاعر السلبية والأعباء التي لا نتحملها؟

يقول نيتشه: إن ما يريده الفرد عادة من خلال رأي الغير فيه هو أن يؤكد لنفسه رأيه في ذاته ويؤيده، إلا أن الإدمان الشديد على السلطة -وهو إدمان قديم قِدَم الإنسانية- يؤدي بالكثير من الناس إلى الاستناد على سلطة ما لدعم ثقتهم بأنفسهم، أي لا يقبلونها إلا إذا صدرت من الغير، فيثقون بحكم الآخرين أكثر من حكمهم لأنفسهم، الأمر الذي يجعلنا نرى كل يوم على مواقع التواصل فئة ممن يتأثرون سريعاً برسالة شديدة اللهجة كُتبت على موقع، مثل صراحة، أو أسئلة نقدية مُزجت بالسباب على مواقع مثل أسك، أو كيوريس كات.. الحلقة المفرغة المكونة من أفعالنا ووعودنا وآرائنا لا تؤدي بالضرورة إلى إرضاء الآخرين، ولكنها في نفس الحال لا تؤدي إلى تأثرنا المفرط بعدم رضاهم، إن كنا حقاً نؤمن بما نفعل ومتصالحين فيما نحن عليه.

وبصدد الخوض في العلاقات الإنسانية، فإن الحديث عن المعاناة أمر بديهي منذ بدء الخليقة.. من الصعب أن يذكر الإنسان مدى سعادته، ولكن الأسهل هو أن يتحدث عن معاناته ومأساته، حتى وإن كان ساكناً في قصر فسوف يشكو من تأخر الخدم في الاستجابة، وأن هناك شيئاً ما خشناً يضايقه كثيراً أثناء تقلبه ليلاً في سريره.

كما من الصعب أيضاً البحث في حقائق الأمور، والتأكد من كل لفظة نتفوَّه بها، لكن من السهل الادعاء دون تقصّ وذكر الأشياء التي لا تتطلب إلا قليلاً من الابتكار والخداع.. لا شيء في حياتنا يخلو من حديثنا الدائم عن المعاناة، ولا شيء حولنا يخلو من ادعاء الآخرين بشأن آخرين.

في إحدى روائع سيدني لوميت 12 angry men يقدم لنا اثني عشر رجلاً في هيئة المحلفين وهم مقبلون على اتخاذ قرار بشأن طفل في قضية قتل والده، وكأنه يقدم لنا تخبط الإنسان ككل.. التذبذب وعدم التأكد والتراجع في القرارات والخوف من إصدار حكم نهائي قد يودي بحياة بريء.. كل ذلك في حجرة مغلقة بتفاصيل وجوههم وجباههم التي يتساقط منها العرق.. مَن منا على حق؟ لا ندري.. لا أحد متأكد كلياً وسط مشاعر الإنكار والعصبية المستمرة.

عادة لا نفكر في أن أقوالنا العابرة قد تكون سبباً في تغيير مصير إنسان، وأن أحكامنا الساخرة والجادة على مدار اليوم متأثرة كثيراً بأهوائنا تجاه الآخرين.. كل يرى الأمور من زاويته التي لا يراها أحد.

يعود نيتشه ويذكر في حديثه عن الوعود أن بإمكاننا أن نعد بأفعال وليس بعواطف؛ لأنها لا شعورية، الذي يعد شخصاً بأن يحبه أو بأن يكرهه أو بأن يخلص له على الدوام، إنما يعده بشيء لا سلطان له عليه.. إننا حين نقسم لشخص ما دون أن نخدع أنفسنا بأننا سنحبه إلى الأبد، فإن ما نعده به هو استمرار مظاهر الحب.

ومع وجود جيل كامل يخاف من الكوميتمنت تصبح البديهيات كالارتباط أو اختيار شريك الحياة وغيرها انتصاراً غير مسبوق، لكن يبقى التساؤل قائماً هل يبدو علينا التأثر؟ هل يبدو علينا التعلق؟ هل يبدو علينا ما لا نستطيع البوح به؟ أم أننا نحتفظ ونصمت إلى أن نصير صفراً خوفاً مما تخبئه الأقدار؟

في واحدة من مفارقات هذا الجيل هي أنه قد جعل من العلاقات عبئاً وثقلاً.. وجعل من الرحيل كارثة ومن التعلق كارثة أيضاً ثم صار يتعامل "بالشوكة والسكينة" مع كل من يراه حتى لا تطبق عليه أحكام الآخرين، وكأنه خاسر في لعبة الشايب.

ومع العودة إلى الوراء قليلاً فكل الأشياء كانت أكثر صدقاً حينما كانت بعيدة عن أعين الناس.. حتى النظرات صارت تفقد قيمتها بعدما رأينا وجوه بعضنا مراراً ونحن نتصفح هواتفنا مساء.. الكلمات المميزة من كثرة تكرارها أصبحت فاترة بلا معنى.. ولا أعتقد أن أياً منا سوف يبدو عليه شيئاً.. صرنا كالآلات لا نبدي شيئاً ولا يبدو علينا شيء.

نحن نعاني حقاً من كثر ما يعتقده الآخرون حيالنا.. ومن عدم التأكد في اختياراتنا وقراراتنا وأحكامنا الفاترة تجاه الآخرين ومن الحديث الدائم عن المعاناة.. نعاني من فقدان المشاعر الصادقة، بل والتعبير عنها بأبسط الأشياء.. وإن كان ما ذكره نيتشه في كتابه "إنسان مُفرِط في إنسانيته".. فنحن جيل مُهدِر في إنسانيته.

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
محمود نجيب
طالب صيدلة
تحميل المزيد