أنا مِـن تُرابٍ ومـاءْ
خُـذوا حِـذْرَكُمْ أيُّها السّابلةْ
خُطاكُـم على جُثّتي نازلـةْ
وصَمـتي سَخــاءْ
لأنَّ التُّرابَ صميمُ البقـاءْ
وأنَّ الخُطى زائلـةْ
2009
ها قد انتهت السنة الإعدادية في كلية الهندسة بجامعة الإسكندرية وانتقلنا إلى قسم الهندسة الميكانيكية وتقلص عدد الطلاب بشكل كبير لتتشكل ملامح حياتنا الجامعية المقبلة.. الآن تستطيع أن تميز الوجوه المحيطة بك.. ورغم زياراتي القليلة لمبنى ميكانيكا العريق، استطعت أن أميّز وجهه بابتسامته التي لا تفارقه ونظارته الرياضية وسماره الذي يشعرك بالألفة وانطلاقة روحه المرحة.
هل تعرف هذا النوع من الشخصيات التي تتحدث معها لدقائق معدودة فتشعر بأنك تعرفها منذ أمد بعيد.. يدخل القلب من أول وهلة وبلا تكلف، يأسرك بجمال روحه.. إذا كنت تعرف هذا النمط من الشخصيات فقد اختصرت عليّ الكثير من العناء في الوصف.
تجدنا متحلقين في مجموعات من الأصدقاء بعد المحاضرات أو في انتظار دخول التدريبات العملية.. نتسامر ونتجاذب أطراف الحديث، أما هو فيتنقل بيننا.. يوزع ابتساماته وضحكاته على الجميع.. لا أذكر أنني رأيته يوماً عابساً أو مكفهر الوجه يبذل الخير إلى الجميع بلا انتظار للمقابل.
ولَكنْ إذا ما حَبَستُمْ بِصَـدري الهَـواءْ
سَـلوا الأرضَ عنْ مبدأ الزّلزلةْ
سَلـوا عنْ جنونـي ضَميرَ الشّتاءْ
2011
يبدو أن عامنا قبل الأخير في حياتنا الجامعية لن يكون كسابقيه.. لقد اكتشفنا الطريق لأول مرة إلى الأنشطة الاجتماعية والاتحادات الطلابية.. لقد اكتشفنا عالماً ساحراً ظل لردح من الزمان حكراً على مجموعات معينة، عالماً لم نكن ندري عنه شيئاً على الإطلاق، لقد تغيرت ملامح الكلية بل الوطن بأكمله وتغيّرت معه طريقة تفكيرنا.. لقد أصبحنا أكثر انطلاقاً وانفتاحاً.. أدركنا مدى قوتنا كشباب.. غزت الأفكار والأحلام والطموحات عقولنا بعد أن تشبّعت لسنين باليأس والإحباط.
هذا هو المناخ المناسب والملائم لصديقي.. لقد انطلق كحوتٍ صغير انتقل من بِركة ضحلة إلى سعة المحيط.. لقد ازداد تألقاً وتوهجاً..بلا ضجيج أو شكليات زائفة.. تجده يعمل في صمت.. دائماً في عون أصدقائه.. تعرف من أثره الطيب أنه مرّ من هنا.
أذكر أننا التقينا في العديد من المحافل خارج أسوار الكلية بلا ميعاد أو اتفاق مسبق، التقيته وغيره ممن حملهم حب هذا الوطن بعيداً عن التيارات والتوجهات.. فقط حلم التغيير والأمل في المستقبل وقت أن كان لكلمتنا وزن وأثر.. اختلفنا أكثر مما اتفقنا وكثيراً ما كنا نوجه لهم سهام النقد، ولكننا اتفقنا على أن الأمل في شباب هذا البلد.
أنَا الغَيمَـةُ المُثقَلةْ
إذا أجْهَشَتْ بالبُكاءْ
فإنَّ الصّواعقَ في دَمعِها مُرسَلَةْ!
2013
لقد تخرجنا يا صديقي، وحصلنا على اللقب الغالي.. بحثت عن عمل ووفقني الله والتحقت بإحدى شركات المقاولات وأبلي بلاء حسناً.. لم نعد نلتقي كالسابق.. علمت من منشوراتك على "فيسبوك" أنك التحقت بالخدمة العسكرية، وأنه تم تكريمك أثناء خدمتك وحصلت على لقب الجندي المثالي.. وصل إلى مسامعي أيضاً أنك من تلقي عليهم خطبة الجمعة هناك.. هنيئاً لهم فهم يستمعون إلى القرآن بصوتك العذب الشجي..يبدو أن أثرك الطيب يحل أينما حللت.. فلتنهِ أيامك مع خير أجناد الأرض سريعاً يا صديقي، فأمامك مستقبل بحاجة إلى أن ترسم ملامحه.
أجلً إنّني أنحني
فاشهدوا ذلّتي الباسِلَةْ
فلا تنحني الشَّمسُ
إلاّ لتبلُغَ قلبَ السماءْ
ولا تنحني السُنبلَةْ
إذا لمْ تَكُن مثقَلَةْ
2015
ما هذه الأخبار التي يتناقلونها يا صديقي؟ يقولون إنه تم الحكم عليك بعشر سنوات في محاكمة عسكرية.. كيف هذا؟! كيف لواحد من خير أجناد الأرض أن يتهم بمثل هذا؟! حقاً أنا لا أصدق هذه الاتهامات.. من المؤكد أن هناك خطأ ما.. فلتخبرهم يا صديقي أنك قضيت عاماً من حياتك في خدمة هذا الوطن وأنك لا تجرؤ على تخريبه.. فلتقل لهم إن الأمل فينا نحن الشباب، وإنه لا طائل من حبسك.. فلتخبرهم أن هذا الوطن لن ينهض إلا على أكتاف شبابه، فلتخبرهم بأن يدك لم تمتد بالسوء يوماً لتراب هذ الوطنن وأنك دائماً في خدمته تبذل الغالي والنفيس، تمد يد العون للجميع.. فلتخبرهم بأنك تحلم بمستقبل مشرق لهذا البلد.. فلترفع صوتك وتصيح بكل ما أوتيت من قوة.. ماذا؟! لا يستمعون لك؟ بُحّ صوتك من كثرة الصياح.. حسناً لا تيأس يا صديقي، الفرج قريب، والله غالب على أمره، وحتماً ستظهر براءتك إن شاء الله.
لا أدري لقد مرت الأيام وطال الأمر ولا جديد يذكر.. نتلمس أخباركم ونعلم أنك ما زلت على عهدك تبث الأمل في النفوس وتوزع ابتسامتك على الجميع، تساعد غيرك بالمتاح حتى وأنت في ظروفك تلك.
أتذكرك ليلاً في برد الشتاء وأنا في فراشي الدافئ فأشعر بالذنب والخزي.. أفرغ حزني في الدعاء لك أنت وباقي الأصدقاء.. أن يفرج الله الكرب ويزيل الهم ويظهر الحق.
ولكنّها سـاعَةَ الانحنـاءْ
تُواري بُذورَ البَقاءْ
فَتُخفي بِرحْـمِ الثّرى
ثورةً.. مُقْبِلَـةْ!
2017
لقد رحلت يا صديقي.. في أول فرصة لاحت في الأفق بعد ما أصبح الوطن مكاناً موحشاً.. انتقلت للعمل في الخارج وكذا الحال مع الكثير من الأصدقاء.. لا أخفيك سراً أن الحياة شغلتني كثيراً.. توقفت منذ ردح من الزمان عن النقاش والجدال وأصبحت أتابع الأخبار وأحتفظ بآرائي لنفسي.. أمر على أخبار المعتقلين مروراً سريعاً.. فلا داعي لمزيد من الأسى والقهر والشعور بالعجز القاتل.. سئمت من جلد الذات.. تغيرت أفكاري كثيراً.. أصبحت الأولوية لخروج أصدقائي من هذه الزنازين الضيقة أياً كان المقابل، ولا أعتقد أنه من العدل في أي شريعة أن تنص على الحبس أو العزل.. لقد تتبعت الأمر وبحثت عن أحكام العقوبات في الإسلام، فوجدت أن عقوبة الحبس تتطبق في أضيق الحدود وليس لها الصدارة أو الأولوية، وتكون لفترات قصيرة؛ لما لها من آثار سلبية على الفرد وأسرته والمجتمع.. لا يوجد سبب يجعلك تقضي زهرة ريعان شبابك في هذا المكان البائس.. فلينتهِ هذا الأمر برمّته فلا شيء يعادل وجودك وسط أهلك وأصدقائك وأنت تنعم بالحرية.
أجَلْ.. إنّني أنحني
تحتَ سَيفِ العَناءْ
ولكِنَّ صَمْتي هوَ الجَلْجَلـةْ
وَذُلُّ انحنائـي هوَ الكِبرياء
2018
لا أدري لماذا أكتب هذه الكلمات يا صديقي.. لعله نوع من الفضفضة أو خداع النفس للتحايل على شعور العجز والقهر، أو تذكير لي ولغيري أن لنا أصدقاء بحاجة إلى دعمنا لهم ولو بالكلمة، ولعلها تصلك يا صديقي، فتدرك أننا نتضاءل أمام أخبار صمودكم وقوتكم.. أسأل الله أن يفك كربك أنت وكل من كتب الله عليهم هذا الابتلاء، وأن تخرج لنا سالماً غانماً منعماً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.