حين أقِرَّ النظام الرئاسي في تركيا في الاستفتاء الشعبي في نيسان/أبريل 2017، توقعتُ أن تتراجع أهمية الأحزاب السياسية مع ممارسة النظام الجديد، وأن يتحول المشهد السياسي التركي الداخلي من الأحزاب إلى التيارات، أو بالأحرى إلى تيارَيْن رئيسَيْن أحدهما يميني وآخر يساري[i].
ومع الدعوة للانتخابات الرئاسية والبرلمانية المبكرة في تركيا، وجدنا أنفسنا أمام تيارَيْن أو تحالفين، تحالف الشعب (أو الجمهور) وتحالف الأمة (أو الشعب). يختلف المشهد الحالي عن التوقعات السابقة من ثلاث زوايا، أنه بدأ باكراً قبل ممارسة النظام الرئاسي عملياً، وكون الاستقطاب أقرب لشخص أردوغان منه للأيديولوجيا أو الخلفية الفكرية، واختراق الاستقطاب اليميني – اليساري من قبَل حزبين رئيسين: الحزب الجديد المنشق عن الحركة القومية وحزب السعادة[ii].
وقد حاز السعادة تحديداً اهتماماً واسعاً، في تركيا وفي العالم العربي على حد سواء، باعتبار خلفيته الإسلامية وعلاقاته المتشابكة مع حزب العدالة والتنمية وأردوغان، فضلاً عن صراعه وخلافاته التقليدية مع حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، الذي يتحالف معه اليوم.
حزب السعادة هو التمظهر الأخير/الحالي لأحزاب التيار الوطني أو "ميللي غوروش" التي أسسها وقادها رئيس الوزراء الراحل نجم الدين أربكان الذي يعرف بأنه مؤسس أو أب "الإسلام السياسي" في تركيا. فقد كابد الرجل طويلاً في العمل السياسي متحدياً الانقلابات والحظر، بادئاً بحزب النظام الوطني الذي أُسس في 1970 وحظر في انقلاب 1971، ثم السلامة الوطني الذي أُسس في 1972 وحظر مع انقلاب 1980، والرفاه الذي أُسس في 1983 وحظر في 1998، والفضيلة الذي أُسس في 1998 وحظر في حزيران/يونيو 2001.
أدى انقلاب 1997 ثم مسار حظر الفضيلة لجدل كبير واستقطاب حاد بين تياري المحافظين والتجديديين في الحزب، وكان المؤتمر العام للحزب في مايو/أيار 2000 هو المعركة الفاصلة بينهما. فاز المرشح المحافظ رجائي قوطان المدعوم من أربكان برئاسة الحزب بـ633 صوتاً مقابل 521 صوتاً لمرشح التيار التجديدي في الحزب عبدالله غل، ما عنى أن الحفاظ على وحدة الحزب لم يعد ممكناً. في يوليو/تموز 2001 أسس أربكان وتياره حزب السعادة، وفي 14 أغسطس/آب من العام نفسه أسس أردوغان (وغل) وتياره حزب العدالة والتنمية الذي يحكم تركيا منذ أول انتخابات برلمانية خاضها في 2002.
تبدو هذه الخلفية التاريخية مهمة جداً في فهم المواقف الحالية للحزب، لكن من المهم أيضاً الإشارة إلى أن الخلافات داخل التيار الوطني لم تنتهِ عند هذا الحد. فقد انشق أحد أكبر قيادات حزب الفضيلة ورئيسه نعمان كورتولموش بعد صراع مع "الحرس القديم" فيه وأسس حزب صوت الشعب في 2010، الذي بدوره حل نفسه وانضم بكامل قيادته وأعضائه إلى حزب العدالة والتنمية عام 2012. كما أن خلافات عميقة نشبت بين قيادة الحزب وبين نجل الراحل أربكان، فاتح، الذي أنشأ أكاديمية أربكان مستقلاً عن الحزب وانتشرت مؤخراً أخبار عن نيته تأسيس حزب سياسي جديد ليمثل هو تيار الفكر الوطني الذي يعتبر أن القيادة الحالية لحزب السعادة لا تمثله ولا تمثل فكر والده.
كان حزب السعادة – وتيار الفكر الوطني – وما زال من أشد المعارضين لأردوغان والعدالة والتنمية، أولاً بدعوى الانشقاق و"خيانة" أربكان ولاحقاً بادعاء التبعية للغرب. وقد راجت على مدى الشهور الماضية أخبار لقاءات متكررة تمت بين قيادة الحزب والرئيس السابق عبدالله غل لإقناعه بالترشح للانتخابات الرئاسية في مواجهة أردوغان، كمرشح توافقي للمعارضة أو على الأقل كمرشح للحزب نفسه، وهي المساعي التي وضع غُل نفسه حداً لها بعد فشل المعارضة في التوافق عليه.
بعد فشل ترشيح غُل، قدَّم السعادة – مثل غيره من أحزاب المعارضة – رئيسه تمل كارا موللا أوغلو مرشحاً رئاسياً، فيما بدا جهداً من هذه الأحزاب لتقليل فرص أردوغان في حسم الانتخابات من الجولة الأولى، على أمل التوافق في الجولة الثانية على منافسه، أياً كان. بينما انضم الحزب لتحالف الأمة بقيادة خصمه التقليدي حزب الشعب الجمهوري (الكمالي العلماني)، إلى جانب الحزب الجيد والحزب الديمقراطي.
يواجه السعادة موقفاً صعباً نسبياً، أمام الناخب التركي عموماً وأنصاره خصوصاً، بعد تحالفه مع الشعب الجمهوري. ذلك أن انتقاده الأبرز لأردوغان والعدالة والتنمية يتمحور حول العلاقات مع الغرب وعدم تطبيق الإسلام وما شابه من سياقات أيديولوجية، وهو ما يبدو غريباً بعد تحالفه مع عدوه التقليدي الذي يعرف بين المحافظين بأنه "عدو الدين والإسلاميين". كما أن ضمان الدخول للبرلمان – الهدف الرئيسي للتحالف البرلماني – كان يمكن تحقيقه بالانضمام لتحالف الشعب بقيادة العدالة والتنمية، الذي رفضه الحزب بعد لقاء رئيسه بأردوغان.
في المعلن، يجمع عنوانان رئيسيان تحالف الأمة الذي انضم إليه حزب السعادة، رفض النظام الرئاسي (رغم أن هذا الشعار تراجع نسبياً) وترسيخ الديمقراطية، بمعنى رفض الإجراءات الحكومية ما بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، وهو ما يبدو غير مقنع للكثيرين.
إذاً، يبدو أن هناك ما هو أعمق من هذه المسوغات وأكثر تأثيراً في آلية اتخاذ القرار في الحزب، وأعتقد أنها اعتبارات ثلاثة:
الأول: الخلفية التاريخية للخلاف بين الطرفين، والنظر للعدالة والتنمية دائماً وحتى اليوم على أنه "الأخ الأصغر" الذي انشق عن "الحزب الأم"، وبالتالي فالتحالف معه يسقط هذه السردية ويعطيه شرعية لا يريد السعادة منحها له، لما لها من تداعيات على بنية الحزب وأنصاره وحيثيته.
الثاني: وبالارتباط مع العامل الأول، الشخصنة الواضحة مع أردوغان والتنافس معه على تمثيل المحافظين والإسلاميين في تركيا، وهو الأمر الذي بات أردوغان أقرب له مؤخراً لعدة عوامل وتطورات.
الثالث: إذا كان ثمة طرف خارجي سهّل تحالف الخصمين اللدودين، السعادة والشعب الجمهوري، فقد يكون إيران، التي لها علاقات جيدة تقليدياً مع الأخير بينما نسجت مع الأول في السنوات الأخيرة علاقات جيدة تمنحها القدرة على التوسط والتقريب بينهما.
في المحصلة، قدم حزب السعادة مرشحاً مستقلاً للانتخابات الرئاسية لا فرصة له في الفوز لتقليل فرص أردوغان، ودخل في تحالف مناوئ له في الانتخابات البرلمانية، ما يعني اصطفافاً واضحاً في الانتخابات المصيرية المقبلة. لكن، وبعيداً عن فرص هذا التحالف في الانتخابات البرلمانية والتي تحتاج مقالاً مستقلاً، فإنه تجدر الإشارة إلى أمرين مهمين:
الأول: أن قدرة قيادة الحزب – وباقي الأحزاب – على فرض قناعاتها وخياراتها على أصوات قاعدته الجماهيرية محدودة نوعاً ما، خصوصاً في ظل التحالف مع الخصم التقليدي.
الثاني: أن التحالف بين الأخيرين أقرب لتحالف انتخابي مؤقت منه لتحالف سياسي دائم. ما يعني أن هذا التحالف من الصعب أن يبقى متماسكاً على المدى البعيد تحت قبة البرلمان، وإنما ستفرض بعض المواضيع والملفات والقرارات نفسها على كل حزب حسب أولوياته هو. وهو ما يعني أن حزب السعادة قد يجد نفسه يوماً، في بعض المواضيع والقوانين والتوجهات، أقرب للعدالة والتنمية وحلفائه منه إلى الشعب الجمهوري وحلفائه.
_________
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.