في صباح غائم ليوم عمل من أيام شهر يناير/كانون الثاني، توجهت إلى أولى محاضرات الدراسات العليا في مجال العلوم السياسية في ذلك المعهد التابع لجامعة الدول العربية القابع في منطقة غاردن سيتي. وعلى الرغم مما تنذر به السحب من أمطار، فإنني فضلت الترجل من سيارتي وإكمال المسافة التي تفصلني عن المعهد سيراً على الأقدام، بدلاً من الدخول بالسيارة في الشوارع الضيقة ذات الاتجاه الواحد المحيطة بالمعهد.
لم تقلل الغيوم من استمتاعي بالسير في هذه الشوارع العريقة، فقصور وعمارات هذه المنطقة كلها شاهدة على العديد من أحداث تاريخ مصر الحديث، ولكل مبنى معماره الذي يحمل بصمة الفترة التي ظهر فيها وطبيعة ساكنيه.
ظللت سائراً غارقاً في تأملاتي فأفقت ومبنى المعهد أمامي، توقفت قليلاً أمام بوابته المعدنية المزخرفة متأملاً فيه.. سرحت بتفكيري في المبنى العريق بطوابقه الثلاثة وشرفاته الصغيرة ونوافذه الطويلة الملونة بالرسوم الفنية وتوزيعها البديع بحيث تعطي مساحة كبيرة للواجهة تبرز فيها الزخارف التي ميزت قصور هذه الفترة، وفي نفس الوقت تسمح لأكبر قدر من ضوء النهار بإبهاج قاطني المبنى.
كم من الأحداث مرت أمام هذا المبنى منذ نشأته عام 1952م ليكون شاهداً على آخر أيام الملكية في مصر وبدايات الجمهورية الوليدة، طافت أمام عيني صور لبشوات وبكوات وهوانم من سكان قصور غاردن سيتي ونزلاء فنادقها الفاخرة وهم يسيرون في هذه الشوارع، ويتهامسون عن هذه الحركة التي أجبرت الملك فاروق على التنازل عن حكمه، ويجتمع مثقفوهم قلقين في أروقة مبنى معهد الجامعة يحاولون التنبؤ بما قد تحمله هذه الحركة من تصورات بخصوص هذه الطبقة الأرستقراطية وأملاكها.
قطع تفكيري بدء هطول المطر، فدخلت سريعاً ليستقبلني بهو واسع مضاء بثريا ضخمة تتدلى من السقف العالي بكريستالاتها المتلألئة والتي توحي بأن هذا المبنى كان قصراً لأحد البشوات أو الأمراء قبل أن يصبح معهداً بحثياً، وصعدت السلم الواسع الذي يعلو درجاته بساط أحمر فاخر، وتحيط به جدران تبرز زخارفها الذهبية وتحرس أركانها تماثيل رخامية، حتى وصلت إلى قاعة المحاضرة والتي كانت بدأت بالفعل.
جلست على المقعد الشاغر بجوار النافذة المغلقة لمنع الأمطار التي تهطل بقوة الآن من دخول القاعة وبدأت أنصت إلى إلقاء المحاضرة، وبعد مرور نحو نصف المحاضرة لفت نظري ظهور شخص عند باب القاعة، فالتفت مع الجميع لأرى فتاة تبدو في أول العشرينات من عمرها تقف مرتبكة عند باب القاعة وقد أغرقها المطر تماماً، وخصلة من شعرها الذهبي قد أفلتت من تحت حجابها والتصقت بجبينها. ظلت واقفة هكذا لبرهة في مكانها كأنها لا تدري أين هي وعيناها العسليتان تجوبان القاعة، ثم تساءلت إن كانت هذه محاضرة مادة النظرية السياسية؟ أشار لها المحاضر بأن نعم فدخلت بخطى متقاربة وجلست في مقعد شاغر آخر الصف.
مضت المحاضرة بعد ذلك ببطء وملل أصاباني بنعاس ساهم فيه صوت قطرات المطر الرتيب على زجاج النافذة المجاورة حتى انتبهت على صوت المحاضر يعلن أخيراً عن انتهاء المحاضرة ويتساءل إن كانت هناك أي استفسارات. تعجبت إذا بدا أن لأحدهم سؤالاً، فالتفت لأرى من هو، فإذا بها تلك الفتاة التي دخلت متأخرة، تضجرت لكوني لا أريد لهذه المحاضرة المملة أن تطول عن هذا، ولكن الحقيقة أن سؤالها كان بالفعل جيداً حتى أن المحاضر أثنى عليه والتفتنا جميعاً لمتابعة هذا النقاش الممتع الذي دار بينهما والذي بسببه عدت إلى بيتي شاعراً بأن اليوم لم يذهب هباءً.
استمر الوضع بنفس الشكل في باقي الأيام الدراسية حيث أصبحت هذه الفتاة – التي لم تكن تعرف نفسها إلا باسمها الأول فقط – هي الشعلة المتوهجة لدفعتنا، فدائماً ما تثري المحاضرات بأسئلتها العميقة ومناقشاتها المميزة، ومع اقتراب امتحانات الفصل الدراسي الأول كانت المساعد الأول لكل من يبحث عن أوراق مادة معينة أو تسجيل ملاحظات لمحاضرة فاتته، حتى أصبحت فعلياً الشخص الذي لا غنى عنه لكل الدفعة خاصة الطلاب الوافدين من خارج مصر.
لاحظت أن القلق الذي بداخلي عليها بادٍ على وجوه كل زملائنا، فعدم حضورها الامتحان شيء مستغرب جداً من فتاة بمثل تفوقها واهتمامها، سأل أحد الزملاء إن كان بالإمكان الاتصال بها للاطمئنان عليها، فبدأ الجميع يتبادل نظرات حائرة، اتضح أنه لا يوجد لها رقم هاتف مع أي منا، فتفرقنا متمنين بألا يكون غيابها لسوء وآملين أن نراها على خير في الامتحان القادم. ولكنها لم تأت أيضاً في ذلك الامتحان ولا في الذي يليه ولا في الذي يليه، حتى تيقن لدينا بأن ثمة مكروهاً أحاط بها.
انتهت الامتحانات ولم نسمع عنها أي خبر، فقضيت الشهرين اللذين يفصلانني عن أولى محاضرات الفصل الدراسي الثاني لا أفكر إلا بها.. ترى من هي هذه الفتاة وأي مكروه أصابها حتى تتغيب عن كل الامتحانات؟ وكيف لا توجد وسيلة اتصال بها حتى مع زميلاتنا في الدفعة؟ ذهبت إلى أول محاضرة في الفصل الدراسي الثاني متسائلاً إن كانت ستحضر أم لا، وعرفت إجابة سؤالي لما رأيتها في القاعة بالفعل وحولها زملاؤنا يطمئنون عليها ويتساءلون عن سر غيابها عن امتحانات الفصل الأول، وهي لا تزيد في ردها عليهم عن ابتسامة رقيقة وهادئة و أن كل شيء بخير.
أسعدتني عودتها بغض النظر عن سبب غيابها عن الامتحانات خاصة وأنها ظلت على نشاطها الذي كانت عليه في الفصل الأول، تناقش هذا المحاضر وتساعد ذلك الطالب وتشرح ما فات لتلك الطالبة التي جاءت متأخرة، حتى صرنا لا نتخيل الدفعة من دونها.
بدأت امتحانات الفصل الدراسي الثاني، وكم كانت دهشتي كبيرة حين لم تأت أيضاً أياً من الامتحانات، ما هذا الظرف القاهر الذي قد يكون منعها من حضور امتحانات العام بأكملها؟ وهل هذا الظرف لا يصيبها إلا في هذه الأيام فقط؟ ولكن ما أحزنني حقاً أنها لن تكون معنا في العام الدراسي المقبل، حاولت أن أتصور المحاضرات بدونها فازدادت كآبتي.
ذهبت إلى المعهد في أول يوم من العام الدراسي الثاني وتوجهت إلى قاعة محاضراتي.. أثناء صعودي لمحت الفتاة وهي تدخل من باب المعهد، فتوقعت أنها متوجهة إلى قاعة محاضرات العام الأول، ولكني فوجئت بها تدخل خلفي نفس محاضرتي، رأيت علامات الاندهاش في نظرات كل زملائنا، ولذا بعد المحاضرة توجه بعضنا إليها ليطمئن عليها ويتساءل عن سر تغيبها لثاني مرة وكيف تحضر محاضرات العام الدراسي الثاني على الرغم من عدم اجتيازها لامتحانات العام الأول، ولكن إجابتها كانت كلها مقتضبة لا تفسر أي شيء ولا تعطي أي معلومة.
مع استمرار حضورها بدأ يتكاثر الهمس عنها.. من هذه الفتاة ؟ وما سرها؟ ولماذا مع كل ما تفعله مع الدفعة لا يلاحظ أن لها أصدقاء ملازمين لها من فتيات الدفعة أو حتى فتيانها؟ وعمنا الاستغراب لما حاول أحد زملائنا أن يبحث في كشوف دفعتنا وحتى الدفعة التي بعدنا أو قبلنا عن اسم لطالبة يبدأ باسمها الأول الذي لا نعرف غيره ولكنه لم يجد، وزاد توجسنا أننا كلما سألنا مديرة شؤون الطلبة عنها ارتبكت وردت بكلام لا معنى له متهربةً من السؤال.
كل هذا دفع أحد زملائنا أن يقول مازحاً ذات مرة أنها ربما تكون شبحاً لإحدى أميرات هذه القصور المهجورة شعرت بالملل فقررت حضور محاضرات المعهد، ومن حينها ونحن نلقبها سراً بيننا بشبح المعهد. في أواخر الفصل الدراسي الأخير لنا في المعهد قررت ذات مرة بأن أتتبعها بعد المحاضرة لعلي أعرف عنها أي شيء، سرت خلفها من بعيد حتى خرجنا من منطقة قصور ومباني غاردن سيتي ورأيتها تتجه نحو مستشفى القصر العيني، تبعتها حتى هناك فوجدتها تنتظر لبرهة أمام إحدى بوابات المستشفى حتى لمحت كهلاً يخرج من القصر العيني وتأخذ بيده ليستند عليها، فيما لا يبدو أنه أحد أطباء المستشفى بل أحد مرضاها.. خمنت من ملامحه أنه أباها، إذن هي فتاة طبيعية لها أهل ومعارف، فما سرها إذن؟ لم أستطع إكمال متابعتها حيث أنها أوقفت سيارة أجرة وركبتها مع أبيها وانطلقت بهما.
بعد امتحانات الفصل الدراسي الأخير، والتي لم تأتِ فيها "شبح المعهد" كالعادة، ذهبت إلى المعهد كي أتسلم شهادة التخرج، ففوجئت برؤيتها تخرج من المبنى وتحمل في يدها شهادة، لم أستطع أن أتحمل أكثر من هذا، لا بد من أن أسمع إجابات لأسئلتي، وهذه قد تكون آخر مرة أراها فيها، فتوجهت إليها مباشرةً وحتى بدون أن ألقي عليها السلام أمطرتها بوابل من أسئلتي، مَن تكونين؟ وما قصتك؟ وكيف تحملين شهادة تخرج ولم تحضري أي امتحانات معنا مطلقاً؟ بل حتى إن اسمك غير مسجل في كشوف المعهد؟
انتهيت من إلقاء أسئلتي وأنا أنظر إليها شاعراً بقلبي يدق بعنف تختلط فيه مشاعر الإحراج و الفضول، بل حتى الغضب من هذه الحيرة التي سببتها لي، أما هي فقد ظلت تنظر لي طويلاً بدون أن تنبس ببنت شفاه، ثم أطلقت تنهيدة طويلة وقالت "حسناً.. أنا بالفعل غير مقيدة بالمعهد، وهذه الشهادة ليست لي، بل إني لا أحب السياسة مطلقاً ولا أهتم بها ولكن الأمر هو أن لي أخاً معتقلاً.. وكانت رغبته وهو داخل سجنه أن يحصل على دراسات عليا في مجال العلوم السياسية، وحيث إن أخي الآخر اضطر للسفر خارج البلاد خوفاً من اعتقاله هو أيضاً، قمت أنا بالتوجه إلى هذا المعهد وشرحت ظروف أخي المعتقل لمسؤوليه الذين تفهموا الموقف، فصرت أنا أحضر المحاضرات وأحاول استيعابها بقدر استطاعتي حتى أقوم بشرحها لأخي كلما زرته في سجنه، ثم تقوم إدارة المعهد في أوقات الامتحانات بإرسال لجنة له هناك كي تمتحنه، وقد اجتاز كل امتحاناته بتوفيق من الله، وها هي شهادة تخرجه في يدي".
ثم أطرقت ببصرها قليلاً وعلى وجهها علامات الإجهاد، ثم قالت: "هذه هي ببساطة حكايتي"، ثم رحلت بهدوء.. لم أستطع التحرك من مكاني.. ظللت أتابعها بنظري حتى اختفت.. فقلت لنفسي.. إنها ليست شبح المعهد.. لقد كنا مخطئين.. إنها ملاك المعهد.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.