أكتبُ لكِ -عزيزتي الجميلة- من غزة الحبيبة، حيثُ أستقي كلماتي من وحي مسيرات العودة الكبرى.. إنني أضعُ بين يديكِ الكريمتين سطوري هذه، فحين يدقُّ بابَ بيتكِ لاجئ، لطفاً ترفَّقي بقلبه ولا تردِّيه خائباً؛ وذلك للأسباب التالية أدناه، تمعَّنيها وتقبَّلي قلبي الشاكر لحسنِ قراءتك.
تزوجيه لاجئاً؛ لتكوني له وطناً ويكونَ لأحلامكِ نِعم السَّند، فمن فقدَ المأوى سيُقدِّرُ كل شيء، حتى الخيمة ستغدو في نظره كأنها قصر.
تزوجيه لاجئاً، ولا تكترثي إن قالوا لكِ عنه إنه مشرد، فنعمَ التشردُ ذلك الذي التصقَ باسم الفلسطيني؛ ليصنعَ ثورةً تحرقُ كلَّ مشاريع التطبيعِ والوطن البديل.
تزوجيه لاجئاً؛ ليُعلِّمكِ أصولَ الرومانسيةِ من أمامِ حدودِ مدينتكِ المحاصَرة، تلتقيان هناك؛ فتكتحل عيناكِ (بالكوشوك) فيتأمل جاذبيتهما بفخرٍ يعجزُ لسانه عن التعبير عنه؛ فيكتفي بالقولِ لكِ: "نِعم الكحل كحل عينيكِ، إن الكوشوكَ حينَ يُكوشكُ عين أنثى ثائرة مثلك، يُصبح صاحبَ ماركةٍ تنأى بنفسها عن كلِ شبهاتِ التقليد، فلا يقوى مخترع على أن يصنعَ كحلاً للعينِ من كوشوكِ الوطن السليب والمحاصَر"، لن يجرؤ أي مهووسٍ في فنون الموضةِ أن يُقلدَ تلكَ الأساطيرِ والإبداعات التي ينتهجها لاجئٌ من بلدكِ الجميل، وإن وصفوه بأنه البلد القاسي الذي لا تتوافرُ فيه أدنى مقومات العيش الكريم.
تزوجيه لاجئاً؛ يصطحبكِ أنتِ وأطفالك إلى الحدود، لتُجددا حبكما رغماً عن أنفِ الرصاص الإسرائيلي بكل أشكاله، فإن رماكِ وإياه ذاك المحتلُ المدجَّج بأعتى السلاح بقنابل الغاز المسيل للدموع، وسعى محبوبكِ لتطويقِ دمعِ عينيك قولي له: "إن دمعي هذا يعني أنني فرِحة بوجودِكَ معي، إنه دمعُ فرحٍ لا دمعُ خوفٍ من القبيح الذي يُحاصرنا، أبكيتني أنتَ بلطفكِ ولم تُبكِني قنابل غازه"، هكذا تعلَّمي أن تُحرِّفي الوقائع لصالحك، وهكذا هو سيحاولُ أن يقلبَ مفاهيم عقلكِ لصالح الإنتاج الوطني والصمود الفلسطيني الرهيب بكل مكوناته ومكنوناته.
تزوجيه لاجئاً؛ يتمرد على لجوئهِ بكلِ عنفوان، يُعلِّمُ الدنيا أن ابن المخيم ليس كمثله ابن، هو ابنٌ بارٌّ لقضيته، وفيٌّ لخيمته، منتمٍ حدَّ الجنون إلى أرضه، تزوجيه لاجئاً ولا تتردَّدي فإنَّ مهاوي الردى تكمنُ في الترددِ، اقتلي شيطانَ الخوفِ بداخلكِ وتجرَّئي؛ فإنَّ الجبنَ كل الجبنِ ألا توافقي.
تزوجيه لاجئاً؛ يصنعُ لكِ زفَّة فرحة ليس كمثلها زفة ولا فرحة، حتى طرحتك التي ستُغطي رأسكِ ستكونُ مغايرة لكلِّ ما ألفتُه النساء في حفلاتِ الزفاف، سنغني لكِ بفخر: "زفوا هالحلوة الفلسطينية بالثوب والشال الأصيل، زفوها لذلك الجميل، غنُّوا لها مواويلَ العودةِ والوحدةِ، وعلّوا صوتَ الزغاريد على وقعِ أهازيج آويها ويا صحن الرز والحليب، آويها وكل ما برد بطيب، آويها وإحنا أهلية وما حدا فينا غريب، الغريب هالمحتل اللي احتل وطنا وخلاه سليب".
تزوَّجيه لاجئاً وافتخري وقولي للشاهدِ على الميثاق الغليظ بينكِ وبين الثائر العنيد: "سجِّل يا قاضي سجِّل وهذه فرحة في البلد، مبروكة سبع بركات وعقبال إن شاء الله الولد، سجِّل يا قاضي سجِّل وهذه فرحة في الحارة، مبروكة سبع بركات عروستنا يا نوارة، سجِّل يا قاضي سجِّل وهذه زفة على الحدود، مبروكة سبع بركات تستاهل أرض الجدود".
تزوَّجيه لاجئاً وكل الدنيا ستكونُ شاهدة على فرحتك، يكفيكِ شرفاً أنَّ الجميعَ سيتناقلُ نبأ فرحتكِ، وأنكِ بصنعكِ هذا ستُدخلين السرور في قلوبِ كثيرين، سيحضرون حفل زفافكِ التراثي من أي نقطةٍ تختارينها من نقاط الحدود الثماني في غزة، سيُحضرونه من باب الابتهاج أو المشاهدة أو التسلية أو الوطنية، أياً كانت دوافعهم ابتهجي، وازدادي ابتهاجاً حينَ يُتابعُ فرحتك الاحتلالُ بكلِّ أركانه، فإن متابعته تعني -يا عزيزتي- أنه قد أُصيبَ بكلِّ مشاعر الخيبة، حين أدرك كم أن غولدا مائير كذبتْ عليه وقتما قالت: "يموت الكبار وينسى الصغار"، فقد رحلتْ هي ولم يرحل تشبُّثُ اللاجئ بأرضه، ها أنتِ -يا صغيرة- كبرتِ وأصبحتِ عروساً، وتزوجتِ بثائر، لتُنجبي جيلاً جديداً من أبناء اللجوء، جيلاً سترضعينه حليبَ العودة، فلا يقبلُ بغيرِ مسقطِ رأسه مسقطاً، ستعلِّمينه قولَ "فلسطين بلدي من رأس الناقورة إلى رفح" مثلما ستُعلِّمينه "أنا اسمي فلان ابن فلان ومن عائلة فلان"، فهذان تعريفان متلازمان ملتصقان، لا غنى لأيِّ فلسطينيٍّ عنهما في حياته.
تزوَّجيه لاجئاً؛ يُدوِّخ الدنيا ببطولاته، حتى إذا قضى نحبه اختاره الله شهيداً، فلا خيار أمامه إلا العودة أو الشهادة، تزوَّجيه وتوكلي على الله، وابتسمي وأنتِ تتذكرين (أسد فلسطين) الشهيد عبد العزيز الرنتيسي، ذلك اللاجئ المُهجَّر ابن قرية يبنا المحتلة عام 48، وهو يقول لابنه البكر محمد: "أنا يا محمد يا بني مجاهدٌ أرجو الشهادة أو إلى يبنا نعود، واعلم بأن بلادنا وقفٌ فلا تخدعك أحلام السلام مع اليهود"…!
تزوَّجيه لاجئاً وإياكِ أن تخافي من قلة الزاد، أرقى أنواع الزادِ عند اللاجئ تجدينه، إنه زاد الكرامةِ الذي لا ينضب، زادٌ لا يقبلُ أن يرخص في المزاد العلني، فهو زادٌ غير قابل للبيع أو المساومة، إياكِ أن تصدِّقيهم حين قالوا إن اللاجئ يسكتُ عند أول كابونةٍ يتسلَّمها من وكالات ومؤسسات الغوث الدولية، فكل كوبانات الدنيا لا ولن تُنسيه حقَ العودة إلى فلسطين كل فلسطين، كلها لا تُقارن أمام نسمة هواء وجلسة تجمعكِ به على بحر يافا، كلها لا تستوي أمام زيتونةِ الرملة، وتوتة الدار التي طالما اشتاق المنشد الفلسطيني "أبو عرب" لها، فرحل وهو ما زال يقول لنا بأغانيه "سنعود يوماً ولن نساوم.."!
وعلى الهامش أفتخر بأنني لاجئة ابنةُ الجميل أبي (جميل) الذي هُجِّر والده من قرية الجية المحتلة عام 48، أفتخر بأني ابنةُ القرية، وأفتخر بكلِّ أبناء القرى المحتلة قبل أبناء المدن، وأقولُ لكل الدنيا كجمالِ وإصرارِ قلوبِ اللاجئين وحيويتهم في العطاء: لا ولن أجد أبداً!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.