في عام 2005، قُدِّر لي أن أحجَّ بيت الله، وصلت إلى مكة ليلاً، كنت قد سمعت أن هناك دعوة مستجابة عند النظرة الأولى للكعبة.. أخذت في إعداد الدعوات.. ها هي مآذن المسجد الحرام بأنوارها البراقة تقترب شيئاً فشيئاً.. دقائق معدودة تفصلني عن رؤية الكعبة.. بدأت نبضات القلب تتسارع، ها أنا أقترب.. فلأستعد بالدعوات.. الآن حان اللقاء.
أبصرت أمامي الكعبة للمرة الأولى والناس يطوفون حولها، طارت الأدعية التي كنت قد أعددتها، ليس بسبب المهابة، ولكن بسبب الصدمة.. فقد ترددت، كيف أطوف حول بيت من الحجارة، خاصة وأنا أرى الناس تشير إليه بأيديها، في مشهد بدا لي قريباً من الوثنية؟! كنت أعلم قبل مجيئي أنني سأطوف ولم أهتم بالتفاصيل، لكن عندما رأيت المشهد تغيَّر الموضوع، فكانت البداية على غير ما توقعت.
شعرت بالقلق في رحاب الله، هل هذا فعلاً ما يريده الله؟ هل هذه من مظاهر الوثنية الأولى؟ أعلم أن كتابات دينية كثيرة تناولت هذا السؤال، لكن التجارب الروحية لا تخضع فقط لحكم العقل، فأدواتها لاكتشاف الكون ومحاولة المعرفة مختلفة، ولا فائدة من عقل لا يبدِّد الشعور بالقلق.. فقررت تغيير الخطة ليطمئن قلبي.
أبرأت ذمتي أمام الله مِن أي سلوك فيه شِرك، فقد أتيت إلى الله ولم آتِ للكعبة، ثم قررت ألا أطوف بروح المتعبد بقدر ما هي روح من يخوض تجربة استكشاف ما يجري، وفي النهاية الله مطَّلع علينا يعلم ما نسرُّ وما نعلن.. وهذا هو الجزء المطمئن.
ولا أذكر أنني دعوت بشيء مما كنت أعددته، فالمناخ العام لم يكن مريحاً لي.. بحثت عن أقرب نقطة ألتحق منها بالجموع.. بدأت الطواف سريعاً كمن يرمي بنفسه في أمواج البحر، وما إن تبلَّل جسدي بالماء ووقفت على قدمي حتى بدأت أفكر.. ماذا أفعل الآن؟! فقررت أن أفتح كتاب الله على أي صفحة عشوائية وأنظر ماذا سأجد..
كان أول ما وقعت عيناي عليه هو قول الله تعالى:
"ص ۚ وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَوا وَّلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ ۖ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)".
حتى وصلت إلى قول الله تعالى:
"أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ (11)".
توقفت عن القراءة وأنا متأثر بهذه الآيات، فأنا الآن في البقعة التي دارت فيها أحداث الآيات، والله يروي مشهداً من تفاصيل الأيام الأولى للرسالة وما كان يقوله الكفار. وبالفعل، حدث ما بشَّرت به الآيات في نهايتها "جندٌ ما هنالك مهزوم من الأحزاب"، كنت متأثراً لأنني تخيَّلت كل مؤمن في هذا المكان كان يكتم إيمانه، وكل من أعلن إسلامه فنالته سهام العذاب، ورسول لا يملك لأتباعه شيئاً وقد ألقى الله عليه قولاً ثقيلاً. ثم ها نحن الآن شهود على صدق الآية وتحقيق الوعد.
أغلقت المصحف وبدأت أطوف بحماسة ولا أردد سوى "جندٌ ما هنالك مهزوم من الأحزاب". ومع كل ترديد أتذكر مشهداً من القصة التاريخية التي وصلتنا. كانت المرة الأولى التي أنظر إلى القرآن فيها بكل ما فيه من زاوية شاهداً على العصر، وكأنه كتاب يحكي رحلة دِين ومذكرات نبي. أقرأ "تبَّت يدا أبي لهب وتبَّ" كبيان سياسي من فوق سبع سموات يُهين الطاغية وامرأته، ليرفع معنويات المستضعفين ويغيظ المستكبرين. وإن كان الناس في عصرنا يعجبون بما يطلقون عليه "المقدمات النارية" للإعلاميين الذين يناهضون الظلم؛ فكيف إن أتى البيان من فوق سبع سموات؟!
كنت سعيداً وأنا أقرأ الحكاية وتفاصيل الحوار بين الله والنبي، وبين الله والمؤمنين، لم أقرأ الآيات كأوامر ونواهٍ بقدر ما قرأتها كقصة تفصيلية سُجِّل حوارها لينقلنا إلى قلب الحدث دون أن تتشوَّه الحكاية بآراء المؤرخين، لم أقرأ القرآن كأنه عليَّ أُنزل ولكني قرأته كما نزل. لم أقرأه ككتاب دين يرشدنا إلى الحلال والحرام؛ بل ككتاب يمكن لأي إنسان -مهما كان معتقده- أن يعايش من خلاله قصة هذا الدين بتعقيداتها الفكرية والاجتماعية والسياسية.
نسيتُ الكعبة، وبدأت من خلال الطواف أشعر بقيمة الحركة التي لا تتوافر إلا في هذه العبادة الحركية، فالكثير من المعاني لا يتشبع منها الإنسان في وضع السكون، الحركة تمرر الأشياء من حولك والأحداث. الصلاة تتطلب ثباتاً وتركيزاً فيما تتلو، أما هذه العبادة المتحركة فتقوم على العقل الحر الذي يفسح المجال للأفكار لتتوارد عليه دون خطة مسبقة، فهي آلية مميزة للتأمل. كالأفكار التي تأتيك وأنت تمشي هائماً في الشارع لا تشعر بالناس، إن سألك أحدهم: ما الذي يشغل بالك؟! ستقول لا شيء، وأنت صادق، فلا توجد فكرة محددة تفكر فيها، لكن خلف هذا اللاشيء تكمن الكثير من الأسرار، ويمكن أن تتشكل أعظم الأفكار.
لا تكفي سبعة أشواط، أريدها أن تكون عشرة؛ بل عشرين، فقد كانت حركتي سريعة إلى الخلف في عمق التاريخ. وكانت كل خطوة في الطواف تبعدني عن الكعبة شيئاً فشئياً؛ بل تبعدني حتى عن الناس فلا أشعر بهم، كانوا يطوفون في 2005، وكنت أطوف قبل 1400 سنة.
بنهاية الطواف تلاشت توجُّساتي من الكعبة، واستمرت علاقتي بها محافظة، فلا أرتمي في أحضانها أو أتلمَّس بركتها أو أعتبرها وسيطاً في الدعاء، فهي كأي مسجد نصلِّي فيه ولا نصلِّي له. بدت الكعبة أشبه برايةٍ قررنا الاجتماع حولها ليبدأ المشهد المهيب، ثم ينطلق كلٌّ منا في رحلته الخاصة وتجربته الروحية المتفردة. أما القرآن.. فكان هو الكنز الذي خرجت به من هذه الرحلة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.