من أصعب الأشياء التي من الممكن أن يكتشفها الإنسان، اكتشافه أنه لا يعرف نفسه كفاية، لا يعرف أكثر كيان ملازم لوجوده: نفسه بكل أبعادها الطيبة والسيئة، ويكون غير مدرك لمواطن قوة وضعف روحه.. والمصيبة الأكبر إنه يعيش ويموت من غير ما يكتشف أهمية الموضوع من الأساس، من غير ما يدرك جهله من عدمه بروحه.
للأسف الشديد لا طبيعة التعليم في مصر، ولا طبيعة التربية، يساعدوا الإنسان أن يدرك هذا في مراحل مُبكرة من حياته، إلا فيما بعد، بعد مرحلة معينة من النُضج، أو بفعل تربية واعية بأهمية الموضوع من الأهل؛ معظمنا ينشأ ويتربى حتى يكون نسخة ممن سبقوه، في معايير النجاح والفشل والصح والخطأ التي وشعها من سبقونا، حتى لو كانت خالية من أي منطق.. كل هذا يصب في تجهيل الإنسان بنفسه؛ ما أهمية أن أعرف نفسي وأنا أصلاً أسير في الطريق المرسوم لي من قبل الآخرين؟
هناك أشخاص الموضوع يتحول لديهم لهاجس صعب جدًا عليهم؛ لدرجة جلد الذات ومحاسبتها على أدق الصغائر، أبسط غلطة يرتكبوها تتحول لعذاب ضمير رهيب؛ ينتج عنه في حالات كثيرة عدم تقدير كبير لأنفسهم.. جزء كبير جدًا من معاناة الناس عندما ينفردوا بأنفسهم أنهم لا يحبوا أرواحهم بشكل كافي ،لا يتقبلوها.. وتكون هذه لحظات ثقيلة جدًا عندما تضطر أن تواجه نفسك أخيرًا منفردًا، بعيدًا عن صخب الحياة، هنا توضع في مواجهة كل الأسئلة والمخاوف الغير محسومة بداخلك.
وكل هذا يكون بدايته نقطة رئيسية واحدة: أن لا تحب نفسك بشكل كافي.
(2)
الإنسان المتقبل لذاته بدرجة معقولة لا يكون عُرضة للاستغلال المعنوي والمادي، مثل الإنسان الذي يعاني من صعوبة تقبُّل نفسه؛ فقدان الثقة في النفس مرعب، ويسهّل جدًا طريق أن يصبح الإنسان هش نفسيًا، سهل الانقياد، ومؤهل أن يلعب دور الضحية.
الفكرة أن الاستغلال هنا يكون من نوع خاص، وذكي جدًا؛ استغلال قائم على منح الشخص الذي يعاني من أزمة تقبُّل نفسه مشاعر نبيلة كالحب والتقبُّل، كل الأشياء التي تنقصه والتي بنسبة كبيرة جدًا لم يجدها في بيته وطفولته ونشأته الأولى، لكن المشاعر الجميلة هذه تكون دائماً مشروطة، مشروطة بأن يكونوا دائماً الطرف الذي يبذل أضعاف أضعاف ما يأخذ ، يمكن أن يتعرض لإهانات أحيانًا، كل هذا لأن أحاسيس المحبة والتقبُّل التي يُمنحوا له من الطرف الثاني مشروطين، مشروطين بأن يكون في دور "الضحية".
عادةً البشر الذي يعانوا من مشاكل مثل هذه يكونوا حرصين جدًا في تعاملاتهم مع أي شخص ،حرصين لدرجة الخوف، لكن عندما يطئمنوا، ويشعروا بالأمان للشخص الغلط، خصوصًا لو رأى فيهم احتياجهم لإحساس "التقبُّل" تحديدًا، فإنهم يدفعون ثمن غالي جدًا في علاقاتهم هذه، خصوصًا لو أدمنوا تلقي إحساس المحبة من شخص بيعطيهم المشاعر الإيجابية هذه دائماً في انتظار مقابل ظالم لهم.
شيء سئ جدًا أن تشعر أن هناك إنسان، صديق أو شريك في علاقة عاطفية أيًا كانت درجتها، يُشعرك أنه يتفضل عليك عندما يحبك.
(3)
لا يوجد إنسان، مهما بلغت درجة قوته وثباته النفسي، لا ينتظر شعورأنه محبوب من القريبين منه، ويشعر منهم بالتقبُّل الحقيقي له، بحسناته وخطاياه.. لكن درجة الاحتياج هذه تختلف من إنسان يمتلك قدر كافي من التقبُّل والمحبة والاحترام لنفسه، وإنسان محروم من هذا تمامًا.. وطبعًا في مجتمع معظم أفراده يتعرضوا لتجارب سيئة جدًا في طفولتهم بخصوص ثقتهم بأنفسهم، وهذا الأمر يستمر معهم على مدار مراهقتهم وشبابهم، طبيعي أن كثيراً من أفراده يكونوا موجوعين بسبب فقدان إحساس تقبّلهم لأنفسهم.
تعرُّف الإنسان على نفسه يمكن أن تكون أهم خطوة عملية في حياته، وتسبق أهميتها معظم ما دونها؛ لأن هناك نتائج وقرارات كتيرة جدًا تترتب عليها؛ علاقات كثيرة نتخلص منها عندما ندرك أننا نستحق الأفضل، أشياء كثيرة نفعلها في أرواحنا يمكن أن نكتشف أهمية طلبها؛ لأننا لا نستحق كل هذا العقاب وما يترتب عليه من وجع ومعاناة.. نظرة بسيطة منا في المرآة لأنفسنا؛ يمكن أن ندرك بها أن الشخص الذي ينظر لنا من الناحية الثانية يستحق منا بعض المصارحة، والتوقف عن أذيته بكل الأشكال، والتوقف عن أي أذى نمارسه تجاه الآخرين ونحن ندركه، حتى نستطيع من الابتسامة عند النظر في المرآة، ولو ببعض الرضا، وإحساس حقيقي بالتقبُّل.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.