في البداية، كنت أظن أن آدم لديه سمات توحد، وأن هذا هو سبب تأخره لغوياً، بالرغم من حديثي المتواصل معه وتشجيعي لمحاولاته للكلام، أسوأ ما في هذه المرحلة كان "الناس".
مرة كنت بالنادي وبدأ رجل مسن يلاعب آدم، كان آدم وقتها عمره اقترب من ثلاثة أعوام. لم يتفاعل آدم مع الرجل، فبدأ الرجل بصورة تلقائية يحكي لي عن ابن صديقه الذي يعيش في عالم من صنعه، ويعالج بالأكسجين فيما يشبه سفينة الفضاء.
مرة أخرى، بعد عدة زيارات، أرسل لي صديق، بحسن نية، قصة كانت متداولة على الفيسبوك وقتها، عن أب أخرج طفله من عزلة التوحد ونجح في تعليمه ودمجه في المجتمع.
مرة أخرى كنت في تجمع عائلي، أرادت إحدى القريبات لفت نظري إلى "مشكلة" طفلي. لم تعرف كيف تفاتحني بالموضوع، فبدأت تدخل "التوحد" بكل تصريفاتها في جمل مفيدة.
المرات كثيرة والألم كبير والقراءة متشعبة.
بعدما أن أتم آدم عامه الثالث بقليل، كنا في رحلة لحديقة حيوان مفتوحة وفجأة أشار إلى دب وقال "دبة". لم أدر بنفسي إلا وأنا أزغرد… حرفياً أطلقت زغرودة فرحة بكلمة جديدة نطقها طفلي.
الطفل الطبيعي، بعمر ثلاث سنوات، قادر تماماً على إدارة حديث مع شخص بالغ بجمل مكونة من ثلاث كلمات وحروف تشبه حروف الكبار.
أما ابني، فكان يجد صعوبة بالغة في النطق، كنت أنطق الأصوات البسيطة أمامه ليقلدها، وكان يشير إلى حنجرته ويهز رأسه نافياً قدرته على الترديد.
بعمر ثلاث سنوات كان يفهم كل شيء، وكان يستخدم لغة الإشارة الخاصة به وبعض الأصوات التي ألفتها بحكم العشرة، ليعبر عن نفسه، كنت أفهمه ولكنها كانت علاقتنا الخاصة ولغتنا الفريدة.
في هذه المرحلة تأكدت أنه لا يعاني من أي من سمات التوحد، وبعد البحث وصلت إلى الـديسبراكسيا (DYSPRAXIA)، في المقال السابق تحدثت عن تأثير هذا الخلل على الحركة، وكيف تعاملت مع هذه المشكلة.
من سلبيات الديسبراكسيا أيضاً، التأثير سلباً على عضلات الفك واللسان، فيجد الطفل صعوبة في تحريك أجزاء فمه بصورة سليمة؛ ليخرج الأصوات المطلوبة لتكوين كلمات مفهومة. وجد آدم صعوبة بالغة في إصدار أصوات المد كلها، مما جعل تكوين الكلمات شبه مستحيل.
الفخ الذي نجوت منه، هو إهمال باقي المهارات بسبب تأخر المهارات اللغوية. الكثير من الأمهات يهملن تنمية المهارات العقلية والمهارات الاجتماعية ومهارات الحياة العملية، إذا اكتشفن تأخراً ما بالطفل.
الفخ الآخر الذي نجوت منه هو اتباع نصائح مثل "لا تجيبيه إلا إذا تحدث"، و"أدخليه حضانة حتى يتكلم". النصيحة الأولى كارثية؛ لأن مقدمها افترض أن الطفل "مكسل" عن الكلام، وفي الحقيقة الطفل غير قادر على الكلام. إهمال محاولات الطفل للتواصل سوف يدفعه دفعاً للانعزال والانفصال وسوف يؤثر سلباً على باقي المهارات.
النصيحة الثانية كانت ستؤدي إلى تحول آدم لطفل عنيف يضرب ويعض للتعبير عن نفسه بدلاً من لسانه العاجز عن الحركة، أو طفل باكٍ زنان مهدر حقه ومضروب، وقد يصبح، بكل سهولة، ضحية تحرش أو تنمر.
من العلامات المبكرة لإصابة الطفل بالديسبراكسيا اللغوية، قلة أصوات "ملاغاة" الطفل وعدم إخراج لسانه خارج فمه وإصدار أصوات محدودة، وعدم القدرة على ترديد كلمات بسيطة مثل "مام" و"بو"، وعدم ترديد الأغاني أو كلمات من الأغاني.
يجد صعوبة في الشفط أو النفخ أو التقبيل، تستمر الأعراض في التزايد في مرحلة الطفولة المبكرة؛ لتجد نفسك أمام طفل يجد صعوبة في ترديد أو استرجاع الكلمات الجديدة، وقد يعكس مقاطع الكلمة "مرضان" بدلاً من رمضان مثلاً بصورة شبه دائمة.
يصعب على الطفل التواصل ويصعب على من حوله فهمه، مما يؤثر سلباً على قدرات أخرى، إذا لم تنتبه الأم.
استندت على أنشطة المونتيسوري لتنمية المهارات اللغوية وبسبب التأخر الواضح، بدأت أتبع أنشطة اللغة للعام الأول من بعد العام الثالث.
هذه هي الفجوة التي أحاول غلقها بالأنشطة والتدريبات. تعتمد أنشطة المونتيسوري على ربط الأصوات بالمجسمات والصور، ويتكرر الربط من خلال الكتيبات الخاصة بكل لون وبكل صوت وبكل فصيلة حيوان وهكذا.
يدمج المونتيسوري كذلك العديد من أنشطة اللغة والأنشطة الاجتماعية مثل الغناء معاً، ويدمج أنشطة اللغة والأنشطة الحسية مثل صنع إيقاع موسيقي سوياً أو جولات الطبيعة أو جولات البحث عن لون بعينه.
المفتاح كان التكرار والصبر وإعطاءه الفرصة ليتحدث مع أكبر قدر من الأشخاص القادرين على فهمه والراغبين في التواصل معه.
الآن، وبعد تقدم ملحوظ في قدرة آدم على التحكم بعضلات فمه وإصدار لغة مفهومة بشكل كبير، بقي لنا العمل على صوت اللغة نفسه.
من السهل عليك أن تتعرف على الطفل المصاب بالديسبراكسيا اللغوية من إيقاع حديثه وجمله، وكأنه أجنبي يتحدث لغة غير لغته الأم.
بدأت مع آدم دروس البيانو لتقوية ذاكرته السمعية وقدرته على الإنصات وقدرته على تمييز الأصوات، وكذلك تقوية تحكمه بحركة العضلات الدقيقة، أحرز آدم تقدماً ملحوظاً وانعكس هذا بالإيجاب على لغته.
بالإضافة إلى البيانو، أضفنا تدريبات أخرى على آلة نفخ تشبه الناي. التدريب على هذه الآلة يساعد على تقوية عضلات الفم والتحكم بها، ويساعد على التحكم بإيقاع الأصوات التي يصدرها الفم.
لجأت أيضاً إلى تعليم آدم اللغات، الكثير من الناس يفضلون التركيز على اللغة الأم مع من يعانون من تأخر لغوي، ولكن في حالة آدم، التأخر اللغوي ليس لسبب عقلي.
لهذا، تعليم الطفل أصوات أكثر من لغة – الإنكليزية والصينية – في حالتنا، يعتبر تدريباً هائلاً لعضلات الفم والفك واللسان جميعها لتعمل في اتجاهات مختلفة لتصدر أصواتاً جديدة وغير مألوفة.
الرحلة لم تنتهِ بعد والفجوة بين عمر آدم الواقعي وعمره اللغوي لم تغلق بعد، ولكنْ هناك تقدم وتطور.. وهذا هو المهم.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.