في سنة 2017، كان فيلم Mother الحدث السينمائي الأكثر غرابةً وإثارةً للجدل، ومن غير المعقول أن تمر هذه السنة أيضاً من دون فيلمٍ يرسم الحدث كأغرب الأعمال السينمائية على الإطلاق، وهذا ما فعله فيلم الخيال العلمي Annihilation عقب إصداره الأسبوع الماضي، حيث يُعتبر فيلماً تحدَّى حدود الخيال ووصل إلى منطقة نفد المعجم اللغوي في وصفها؛ بسبب موضوعاته الغريبة التي يُناقشها. لذا، إن كنت تظن أنك رأيت أفلاماً عديدة غريبة، غامضة وغير مألوفة للعقل، فإنك على وشك مشاهدة فيلم آخر سيجعلك تتخبط داخل عاصفة من النظريات والأفكار.
تدور أحداث فيلم Annihilation حول منظمة سرية اسمها Southern Reach تقوم بتنظيم بعثات استكشافية علمية إلى منطقة تُسمى المنطقة X، حيث تعتبر هذه الأخيرة مكاناً غير مأهول وجزءاً مهجوراً لم تَعُد قوانين الطبيعة تنطبق عليه على الإطلاق، حيث سيتم إرسال فريق مكون من 4 نساء؛ عالِمة أحياء، وعالمة أنثروبولوجيا، وطبيبة نفسية، ومتخصصة في مسح الأراضي؛ من أجل تقصي ماهية هذا المكان، ويُعتبرون البعثة رقم 12 التي تذهب لهذه المنطقة X، البعثات الأخرى السابقة قام بعض أعضائها بالانتحار، هناك من تعرَّض لسرطانات خطيرة، وهناك من أُصيب بصدمات نفسية، وآخرون اختفوا ولم يعودوا قَط.
في هذا التحليل سنحاول أن نشرح مجموعة من الأمور الغامضة حول الفيلم، على سبيل المثال: من أين أتى ذلك الوميض أو ما سُمِّي في الفيلم The Shimmer؟ مشهد العظام المتناثرة أمام المنارة؟ مشهد الدب الذي يُصدِر ذلك الصوت البشري الغريب؟ النهاية الغريبة؟ وما المعاني وراء الفيلم والنظريات التي يُناقشها؟ لذلك، فحرقٌ للأحداث سيكون حاضراً بشكل كبير.
أولاً: ما المعاني وراء الفيلم؟ وما الذي يحاول قوله المخرجُ؟
ذهب العديد من رواد السينما في طرح مجموعة من النظريات المختلفة والتي تبدو منطقية حسب وجهة النظر الخاصة بكل مُشاهد. تتلخص النظرية الأولى في كون الفيلم عبارة عن تعبير مجازي لمرض السرطان! الوميض أو ما يُسمى The Shimmer هو مرض سرطان موجود على كوكب الأرض والذي سببه هم البشر جراء تصرفاتهم الطائشة. أما القنبلة الفوسفورية التي استعملها "كين" في تلك المنارة عند نهاية الفيلم، فتُمثل العلاج الكيميائي أو ما يسمى الكيمو الذي يُستعمل لمداواة السرطان، في حين تُمثّل بطلة الفيلم "لينا" وزوجها "كين" ناجيَين من هذا السرطان، وذلك هو ما رأيناه عند نهاية الفيلم، حيث كانا الوحيدين اللذين استطاعا النجاة والخروج من ذلك الوميض The Shimmer.
كما أن نظرية السرطان هذه تمت الإشارة إليها بشكل آخر عند بداية الفيلم، حيث رأينا كيف تشرح بطلة الفيلم لطلابها خلايا السرطان وكيف تتكاثر… لأنه من غير المعقول أن يُدخل المخرج موضوع السرطان في البداية من دون أي غرض أو هدف! أو مثلاً، لماذا اختار المخرج أن تكون بطلة الفيلم بالضبط أستاذة في علم البيولوجيا وتشرح لطلابها خلايا السرطان؟!
النظرية الثانية هي أن الفيلم عبارة عن تعبير مجازي لمعنى التدمير الذاتي! بمعنى آخر، ذلك الوميض يُمثل قبراً لكل من كان تصرُّفه وسلوكه في الحياة خاطئين. لدينا كل شخصية من شخصيات الفيلم تُخفي سراً لا ترغب في أن يعرفه الآخرون؛ "لينا" بطلة الفيلم، مثلاً، كانت في علاقة غرامية مع صديقها بالعمل رغم أنها متزوجة، الشخصيات الأخرى إما أنها مدمنة كحول ومخدرات وإما أنها تخفي سراً هي نادمة عليه. نظرية التدمير الذاتي هذه تبقى مرتبطة بشكل كبير بنظرية السرطان، حيث يمكن أن نقول إن السرطان هو عملية تدمير ذاتي لجسم الإنسان وحياته، وهذا بالضبط ما يفعله الوميض؛ يقوم بتدمير أي شيء يدخل إليه، كما أنه في توسُّع دائم كما ذُكر في الفيلم، حيث قِيل إنه عندما حطَّ من الفضاء على الأرض بدأ يتوسع ويلتهم في الأراضي مع مرور الوقت.
حتى إن المخرج "أليكس غارلند"، خلال حديثه في حوار مع Talks at Google حول الفيلم، سأله المُحاور عن الإلهام الذي دفعه لإنجاز هذا الفيلم، فأجابه بعبارة "التدمير الذاتي لأنفسنا-self-destruction"، حيث أضاف أنه مهما يكن أي شخص ناجحا في حياته؛ لديه عمل مريح، يملك الكثير من المال، صحته جيدة، لديه عائلة رائعة… عندما تتعرف عليه من قرب وتدخل في بعض الحيثيات تجد أنه يُعاني تصدعات، وأن تلك المثالية التي كنا نراها من بعيد لم تعد مثالية! وهذه التصدعات أو السلوكات المُتصدعة هي بداية التدمير الذاتي التي قد تحطمنا مثل السرطان.
النظرية الثالثة، التي تبدو الأقرب والأقل تعقيداً، حيث تجمع أيضاً ضمنها النظريتين السابقتين، وهي أن هذا الوميض عبارة عن تكنولوجيا أو علم ينتمي إلى كائنات فضائية قادمة من خارج كوكب الأرض، من مكان ما من الكون. وهذا بالضبط ما رأيناه في بداية الفيلم، حيث هناك لقطة تُظهر بشكل جلي ما يُشبه شهاباً قادماً من الفضاء ومتجهاً نحو الأرض، فيصطدم بتلك المنارة ويبدأ في التوسع والتعديل والاستحواذ على كوكب الأرض.
هذا الاستحواذ والتعديل يتمثل في دراسة الأحماض النووية الموجودة على الأرض الخاصة بجميع المخلوقات كالنباتات، والحيوانات، والإنسان؛ من أجل خلق كائنات جديدة عن طريق إنشاء طفرات جينية عليها. مثلاُ كما رأينا في الفيلم، تم خلق تناسل مُهجن بين حيوانات مختلفة مثل ذلك التمساح الذي يملك أسنان أسماك القرش، أو خلق نسخ عن البشر لكن بتعديلات مختلفة، مثل النسخة المطابقة لبطلة الفيلم (لينا) التي رأيناها في النهاية، أو مثل زوجها الذي رأيناه في البداية والذي كان عبارة عن نسخة مُهجنة من زوجها الأصلي، وذلك ظاهر من خلال تصرفاته الغريبة معها عندما قَدِم إليها إلى المنزل.
وهذا بالضبط ما وصفته إحدى العالمات في الفيلم عندما قالت إن ذلك الوميض the shimmer يُعتبر كالموشور (prism) الذي يعكس الضوء، لكنه أيضاً يعكس الحمض النووي الخاص بجميع الكائنات التي تعيش داخله؛ ومن ثم أصبحنا نرى مخلوقات مشابهة للأصلية لكن بتعديلات جينية. وهناك دليل قبلي في بداية الفيلم يُشير إلى هذا الانعكاس الذي أحدثه هذا الوميض على زوج بطلة الفيلم؛ لقطة كأس الماء وعندما كان أحدهما يمسك بيد الآخر، حيث نرى بشكل واضح تجلّي فكرة المنشور الذي يعكس الضوء أو يعكس المخلوقات إلى أخرى معدلة جينياً، حيث قام بنسخ زوجها "كين" وعدَّل عليه جينياً، فجاءها شخص مخالف لزوجها الذي تعرفه.
مشهد الدب والصوت البشري الغريب!
الفيلم غريب ومروع في الوقت نفسه، خصوصاً عند مشهد الدب الذي هجم على العالمات في ذلك المنزل. أظن أن هذا المشهد يمثل بالنسبة لي من بين أفضل المشاهد السينمائية التي صُوّرت على الإطلاق، حيث يجمع بين شعور من الغرابة، والرعب، والفضول، والدهشة، والروعة… ذلك الصوت الغريب الذي كان يُصدره الدب المُهجن جاء من خلال دمجه لآخر الكلمات التي قالتها العالِمة الأولى التي هجم عليها، فدمجها مع نظامه الصوتي وأصبح يستعملها للإطاحة بالأخريات، غريب ومُدهش!
مشهد الجماجم والعظام أما المنارة!
مشهد آخر يزيد الطينة بلة في جعل الفيلم لغزاً كبيراً، لكن من بين النظريات التي يمكن تفسير هذا المشهد بها؛ وهو أن تلك العظام عبارة عن تحذير من طرف أعضاء البعثات الاستكشافية الأولى التي دخلت إلى هذا الوميض من قبل ولم يعودوا، حيث إنهم حاولوا من خلال تلك العظام أن يُحذروا كل من سيأتي من بعدُ بألا يدخلوا لتلك المنارة؛ لأن الأمر لن ينتهي بنهاية سعيدة!
مشهد النهاية!
أيضاً، من بين أكثر لحظات الفيلم غموضاً وغرابة، مشهد النهاية وما حدث مع بطلة الفيلم "لينا" في تلك المنارة، حيث وجدت العالمة "فنترس" داخلها، ثم حاول ذلك الشيء أن يقوم باستنساخها ويخلق نسخة مطابقة سوداء الشكل عنها والتي تحاول أن تحاكي حركاتها وتصرفاتها بعدما سقطت قطرة من دمها داخله والذي -كما قلنا سابقاً- يحتاج للحمض النووي لأي مخلوق لكي يستنسخه. يُمكن شرح هذا المشهد على أنه عبارة عن تعبير مجازي للصراع النفسي الذي تعيشه "لينا" بعد فشل زواجها أو بعد خيانتها زوجها كما رأينا في بداية الفيلم، وكان الحل في نظرها هو أن تدمر هذا الشيء الذي يُحاول أن يستنسخها ويُذكِّرها بزواجها الفاشل من خلال إشعال النار في تلك المنارة، خصوصاً -كما قلنا- أن ذلك الوميض يقوم دائماً بعكس ونسخ كل من اقترف أي خطأ سابق في حياته أو ما يسمى نظرية التدمير الذاتي التي ذكرناها سابقاً.
هل "لينا" التي رأينا في الأخير هي الأصلية أم المُستنسخة؟
في الحقيقة، من الصعب جداً الإجابة عن هذا السؤال؛ لأن ما رأيناه في المنارة هو أن "لينا" الأصلية هي التي نجت واستطاعت العودة، لكن عندما كان يستجوبها صاحب البدلة البيضاء، كانت هناك بعض الإشارات التي تُلمح إلى العكس. فمثلاً، إذا ركزت في مشهد الاستجواب فسترى أن "لينا" عندما حملت كأس الماء لتشرب، قام المخرج بالتركيز على الكأس جيداً، فنرى الماء وكأنه في حالة تغير أو ما يسمى في حالة طفرة. هذا الأمر ليس واضحاً تمامااً، لكنه إشارة مباشرة من المخرج على أن هناك شيئاً في غير محله.
أضف إلى ذلك، اللقطة الأخيرة من الفيلم، حيث نرى بشكل جلي عيني شخصيتنا الرئيسية "لينا" في حالةِ تغيرٍ باللون، مما يدل على أنها ليست هي "لينا" الأصلية. بالنسبة لزوجها فالأمر واضح على أنه ليس هو زوجها الأصلي، فهذا الأخير هو الذي قام بتفجير نفسه بتلك القنبلة الفوسفورية عندما كان في المنارة، الشيء الذي يجعلنا نستنتج أن ذلك الوميض الذي يُغير في جينات المخلوقات ويقوم باستنساخها، نيته ليست التعايش على كوكب الأرض وإنما السيطرة والاجتياح من خلال اعتماده على ما يُسمى الحرب البيولوجية التي تعتبر أقوى من الحروب التقليدية، حيث يكون من المستحيل السيطرة عليها أو معرفة مصدرها أو كيف تتفشى إلخ… ولا شك في أن عنوان الفيلم يُشير إلى هذا الأمر بشكل واضح؛ Annihilation أو ما يسمى "الإبادة"!
كلمة أخيرة حول الفيلم!
رغم تعدد هذه النظريات الغريبة التي تحاول شرح الفيلم، فهذا الأخير تم إخراجه بطريقة لا تقبل منطقاً واحداً، أو بمعنى آخر: من المستحيل أن تحاول فهمه واستخراج فكرة منطقية واضحة واحدة، حيث -كما وصفه العديد ممن حاولوا معه- يجب فهمه بشكل مجازي فلسفي! كما أن الفيلم يمكن أن يقبل ما لا نهاية من النظريات، وأنه لم يكن مُتعمداً من الأول أن يكون له شرح واحد فقط، تبقى أنت والفيلم والمستوى الذي وصلت معه في أفكارك ومستواك المعرفي.
على أية حال، من منظوري الشخصي للفيلم، أنا ممتن جداً؛ لأننا حصلنا على مثل هذه الأفلام التي تفشل الكلمات والأفكار في احتوائها؛ لأنها لا تنتهي فقط عندما يصعد الجنيريك، ولكن يستمر إلى ما بعد ذلك في جعلك تبحث وتستكشف لكي تفهم، خصوصاً عندما نكون وسط مهرجان من أفلام مُستهلكة تملأ السنة بقصصها المُكررة والمملة. ما رأيك أنت في الفيلم؟ كيف تفاعلت معه؟ وكيف فسرت حيثياته؟ شارك معنا رأيك!
تقييمي للفيلم: 9/10
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.