في الآونةِ الأخيرة، تفاجأ القارئ العربي، والمغربي خصوصاً، بتلك الموجة الكاسحة التي عرفها الأدب المغربي، وهي بزوغُ تاريخٍ جديد في القصّة والرّواية.
أدباء شباب يُطلُّون علينا بأعمال مُبهرة، تستوقف القارئ؛ ليعجب بها أيَّما إعجاب، لا سيما بعد أنْ خرجت عن المألوف وعن تلك المواضيع البديهية والمتداولة التي هيمنت على الرواية المغربية لسنواتٍ طوال.
القصّة القصيرة بدورها تعالت في السماء فرحاً وسروراً، بعد أن احتكر الأدباء المغاربة التتويج في المسابقة الوطنية والدولية في القصة القصيرة.
هؤلاء الكُتَّاب الشباب بمثابة شعلة وهاجة في أوجِّ عطائها، نتمنى ألا يخفت ضوؤها وتتيهَ في سراديبِ النِّهايات.
لم يَسبق لي أنْ ذهبتُ إلى معرض الكِتاب -الذي يقام كل سنة في المغرب- تملَّكتني دهشةٌ كبيرة من الكلامِ حول هذه الأعمال. اقتنيتُها، وكنتُ أتمنّى أن تنال إعجابي. لكنني لم أعجب بها، بل انبهرت كثيراً بذلك الحس الأدبي البديع.
أعمالٌ شابة، تقودُك إلى متاهاتٍ عميقة لن تجد سبيلاً للخروجِ منها.
العمل القصصي "أنا لستُ لكِ" عملٌ ناضج، قصص رائعة. استطاعَ الكاتب "مُراد المَساري" أنْ يطربني بلغته الجميلة، واستفدتُ من عمله هذا كثيراً.
صراحةً، وجدتُ نفسي نكرةً أمامَ هذا العمل. هي قصص متناثرة يجمعها الكاتب بخيط ناظم، يجعل منك هذا الخيط تبصر الأحداث بعينيك، وكل عمل لم يجعلك ترى الأحداث بأم عينيك احرقه دون تفكير.
يقول الكاتب: "يعتمدُ مُخرجو الأفلام الرُّومانسيّة أنْ ينهوا أعمالهم بمشاهد مثاليّة بجرعات دراميّة زائدة؛ لكي يكسبوا وِدَّ المُشاهدين، وحتى لا يَكسروا خواطرهم وقُلوبهم رهيفة، لكن لا أحد اطّلع على أولئك الأبطال المُتوّجين بالحُب كيف أضحوا بعد تواري الكاميرات إلى الخلف".
"الأحلامُ الكبيرة تحتاجُ سواعد رجال الإغريق وصبرَ الأنبياء" – ص 38، منشورات اتحاد كتاب المغرب.
يقودنا الروائي "سعيد الخيز" إلى معاناة الطفولة والتشرُّد في منطقته، يحكي عن ذلك بسلاسةٍ لغوية جميلة، يتحدث دون قيود. ويتطرُّق أيضاً إلى مسألة تلاشي الوطن والهجرة إلى غير ذلك من المواضيع الحيويّة.
يقول الروائي "سعيد الخيز" في روايته "نوستالجيا الحب والدَّمار": "صمتتُ للحظة، كأنَّ ما قلتهُ جفَّفَ نبع مياهها الجوفيّة، ستعتقدُ حتماً أنّي ما زلتُ وفياً لحبٍّ قديم كلَّ هذه السَّنوات، جميلٌ جداً أن تكتشفَ أنّي ما زلتُ متيماً بها، أيُّ أسطورةٍ سيكونُ هذا الحب الطّاعن في المرارةِ والانتظار، أيُّ امرأةٍ في التاريخ السياسي للعشق ستكونُ ماريا، إنْ ظنَّت حقاً أنَّها المرأةُ الوحيدة لرجلِ ظلٍّ ينتظرُ عودتها المستحيلة" – ص 288، دار كيان للنشر والتوزيع.
تشبع سعيد الخيز بتقنيات الكتابة الروائية والسردية؛ إذ ينتقل من حدث لآخر دون أن تشعر بفعل ذلك الانتقال، وهنا تتجلى حنكته الروائية.
يسرد الأحداث والأغلال لا تقيده، لا يخاف من أي شيء، يتحدث بلغة مباشرة بهية يستمتع بها القارئ، حتى إنه اختار تلك المواضيع الاجتماعية التي نراها كل يوم دون ملل أو كلل.
استغرقت كتابة هذا العمل -على حد قوله- خمس سنوات، مما يبين أن الفكرة اختمرت في ذهنه وحوله بأسلوب روائي أقل ما يقال عنه إنه أسلوب مزخرف يصل بالقارئ إلى شدة الانبهار. تفاجأت كثيراً بأسلوبه وطريقة سرده للأحداث. كاتب يعد بالكثير مستقبلاً، أطلت علينا منطقة سوس المنسية بكاتب سيكون له شأن كبير تحت لواء الكتابة الروائية.
يعتبرُ الكاتب "عبد المجيد سباطة" كاتباً يُعوَّلُ عليه، كيف لا وأنَّ القارئ لروايته الجديدة "ساعة الصفر" يندهشُ جراء براعة الكاتِب، حيث طوَّر أسلوبهُ كثيراً بالمقارنةِ مع روايته "خلفَ جدار العشق" التي رأت سنة 2015، حيث اكتشف ثغرات عميقة في الرواية العربية والعالمية وحاولَ جاهداً أنْ يطبِّقها على أعماله الروائية.
أسلوبه المبهر وطريقة السرد لا تبين سوى أن الكاتب ينغمسُ كثيراً في القراءة، فهو قارئ نهم. ساعة الصفر بمثابة قدح من المربى أزلتُ به طعم حكاية حامضة لرواية مغربية تُدعى "الحيّ الخطير".
بعد أن تاهت بي الدنيا بعد قراءة العمل المذكور – اسمهُ صار مفزعاً لرداءته – لم أجد سوى "ساعة الصفر" لكي أنتعشَ وأتلذّذ بحلاوة اللغة. ساعةٌ متوقِّفة، أوراقٌ مبعثرة، وذكرياتٌ مفزعة، كلُّ هذا بدأ من مقبرة جماعية متواجدة في البوسنة والهرسك (يوغوسلافيا سابقاً).
سمعتُ شذرات عن حرب البلقان التي دمّرت البوسنة برمّتها، إلى أن اطلعت على رواية "عبد المجيد سباطة" واكتشف معلومات جديدة عن تلك الحرب التي حولت حياة الإنسان إلى مأساة.
بدايةً أهنئ الكاتب على بحثهِ المُحكم، وتفرُّغه الجيّد لهذا العمل.
وثانياً أود شكرهُ جزيل الشكر على أحداثه المشوقة، التي تمسكُ ذهن القارئ وترميه في الحدود بين بلدين.
وظَّف الكاتب تقنية لا يجيدها إلا مبدع حقيقي، هي تقنية التيه داخل الأحداث، وتبقى متشوقاً لمعرفة النهاية، حتى الراوي لا نعرفُ عن أيّ شيء مجهول الهوية، وبذلك أصبح القارئ يجهل نفسه بعد الانتهاء من هذه الرواية الشيقة.
الراوي لا نعرف عنه لا اسمه ولا جنسيته ولا معتقدهُ الديني. سلطت هذه الرواية الضوء على سؤال الذات وحيرة الذَّات، وعلى الإنسانية التي انتفت وأصبحت مطمورة.
إنَّ هذه الرواية ليست عبارة عن هلوسات كالحب والعِشق، فالكاتب هنا عالج إشكالية إنسانية، وكأنَّه يُصرِّحُ بصريحِ العبارة أن الأدب المغربي أصبح يحملُ قضية.
أمَّا الحديث عن الفقر والإجرام والجنس والكبت فهذه مواضيع تم تجاوزها وأصبحت منسية. لعلَّ التيمة الرئيسية التي تُهيمن على رواية "ساعة الصفر" هي إشكالية تيه الهوية وجدلية الاعتقاد الديني.
لا أنصحُ القارئ الجمل أو القارئ الأسد أن يفتح هذه الرواية؛ لأنَّه لن يعرفَ موضوعها، والفكرة المحورية التي يريدُ الكاتب إيصالها للقارئ.
وأخيراً ما يسعني أن أقول: عبد المجيد سباطة أراهن عليه كما يراهنُ عليه جل القراء الشباب مستقبلاً، ولحد الآن لم أستوعبِ سبب عدم تأهل هذه الرواية للمنافسة على جائزة "البوكر".
يقول عبد المجيد سباطة: "لا أبشعَ من الموتِ سوى انتظاره… من أنا حتى تتجنَّبني ضرباته وتُصيب الآخرين؟ فلتأتِ قُنبلة أو قذيفة أو صاروخ أو رصاصة أو أيّ اسم من هاتهِ الأسماء التي أدرجتها آلة القتل الصربية في قاموسِها لتخلِّصني منْ هذا العذاب، فأنا لم أعد قادراً على التحمُّل أكثر من ذلك.
لن أقولَ بأنَّ المشهد كان مُرعِباً، أو أنَّ رائحة الموت قد أزكَمَت الأُنوف، أو أنَّ أشلاء الضحايا تناثرت كاللَّحم المفروم فوق الثَّلج الأبيض". ساعة الصفر، 194، المركز الثقافي.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.