ملخص:
في مؤتمرها العام العاشر، أعلنت حركة النهضة أنها ستفضل العمل السياسي على العمل الدعوي، وستتحول إلى حزب ديمقراطي وطني. اعتُبِر القرار إشارة إلى سقوط الإسلاموية. غير أن تتبع التطور الأيديولوجي والتنظيمي للحركات التونسية الإسلامية يُظهر ديناميتها وقابليتها العالية للتكيف. ومن ثمَّ ينبغي اعتبار التطورات الأخيرة تحولاً إسلاموياً جديداً، وإعادة تشكيل الحركة استجابةً للفرص والتحديات التي واجهتها منذ الربيع العربي.
مقدمة
"موت الإسلاموية! يحيا الديمقراطيون الإسلاميون"، "النهضة تُغادر الإسلام السياسي"، "من الإسلام السياسي إلى الديمقراطية الإسلامية". تصدرت هذه العناوين الدرامية نشرات الأخبار في عددٍ من وكالات الأنباء الدولية التي غطت المؤتمر العام العاشر لحركة النهضة، الذي أُقيم في العشرين من مايو/أيار 2016.
في خطابه الرئيسي، لخَّص راشد الغنوشي، مؤسس الحركة ومفكرها الرئيسي ورئيسها الحالي، تطور الحركة الإسلامية التونسية في ثلاث مراحلٍ متعاقبة:
"حركة النهضة حركة لم تتوقف عن التطور خلال مسيرتها الطويلة. تطورت الحركة من السبعينات إلى اليوم، من حركة عقدية تخوض معركة من أجل الهوية إلى حركة احتجاجية شاملة في مواجهة نظام شمولي دكتاتوري، إلى حزب ديمقراطي وطني متفرغ للعمل السياسي".
في هذا المؤتمر، أعلن قائد الحركة ما وصفه بتحول أيديولوجي أو إعادة تصنيف للحركة، بقرار فصل العمل السياسي عن الدعوي، وتحويل حركة النهضة إلى "حزب ديمقراطي وطني" عادي.
اعتبر الغنوشي هذا القرار التاريخي علامة على النضج. وعلى الجانب الآخر، أثار القرار عاصفة من الانتقادات الحادة؛ إذ واجه قادة الحزب اتهاماتٍ بخيانة تاريخ الحركة ومعتقداتها، وتقديم تنازلات مخزية إرضاءً لعلمانيي تونس والقوى الدولية.
هدف هذه الورقة البحثية هو تتبع التحولات الأيديولوجية في طريق الحركة الإسلامية التونسية الطويل، من السبعينات إلى الوقت الحاضر، والنظر في السياقات والعوامل الأساسية التي حفزت هذه التحولات، وصولاً إلى التخلي عن الأيديولوجية الإسلامية.
لكن، قبل المضي قدماً، من المهم أن نستكشف أصول الإسلاموية، وكيف تفاعلت مع التحديات الوجودية التي واجهها الإسلام في منتصف القرن التاسع عشر؟
الإسلام في العصر الحديث
التعريف البسيط للإسلاموية هو "النشاط السياسي والحشد الشعبي باسم الإسلام". عادةً ما تُعتبر الإسلاموية استجابةً من جانب المسلمين المتدينين أو الملتزمين لتردي المجتمعات التقليدية والغزو الحداثي لها.
العلاقة بين الإسلاموية والحداثة معقدة نوعاً ما. يُجادل البعض بأن الإسلاموية استجابة محافظة للحداثة وتمردٌ عليها. ومع أن المسلمين التقليديين قد تقبلوا الجانبين المادي والتقني من الحداثة، فإنهم قد رفضوا طريقة التفكير الحداثية، وآمنوا بأن نسبية الحداثة تؤثر سلباً على أخلاقية المجتمعات الإسلامية وقيمها التقليدية.
من ناحية أخرى، الإسلاموية ظاهرة حديثة في حد ذاتها. الإسلاميين "من منتجات الحداثة تماماً بقدر ما هم رد فعلٍ لها. في محاولاتهم مقاومة الحداثة وبناء نظرية إسلامية أصيلة لطريقة حياةٍ جديدة، استعار الإسلاميون كثيراً من الأفكار والطرق الغربية الحديثة في التنظيم السياسي والاجتماعي والحشد الشعبي. ومن ثمَّ أسس الإسلاميون حركاتٍ اجتماعية وأحزاباً سياسية عوضاً عن تأسيس تقليدٍ كلامي أو فرقة مذهبية، ونشروا الأيديولوجيات السياسية عوضاً عن العقائد الدينية.
ليست الإسلاموية ظاهرة حديثة فقط، لكنَّها قد تُعتبر عنصراً تحديثياً كذلك. لم تتوقف الإسلاموية عن جني منافع تحول المجتمعات التقليدية الإسلامية إلى الحداثة، بل ساعدت أيضاً في ترسيخ هذه التحولات.
على سبيل المثال، استطاعت الحركات الإسلاموية فصل أعضاء المجتمعات التقليدية عن روابطهم (بالقبائل أو الطوائف)، وتجنيدهم إلى نظامٍ جديد من الأفكار وعضوية الحركات الاجتماعية، بفضل انبثاق شكلٍ حديثٍ من النشاط السياسي (أي المنظمات السياسية الحديثة، وساسة الحداثة ومفكريها، والمجال العام والإعلام الحديث).
سمة أخرى من سمات الحداثة كان لها أثرٌ هائلٌ على صعود الإسلاموية هي ثورة الطباعة ومحو أمية القراءة، التي أتاحت النصوص الإسلامية الأصولية لجماهير متزايدة في المجتمعات المسلمة.
كان العُلماء في المجتمعات الإسلامية التقليدية هم المفسرون الوحيدون للإسلام. غير أن المؤسسات الإسلامية التقليدية واجهت اتهاماتٍ من جانب العلمانيين والمجددين الإسلاميين بأنها تنشر صورة "متحجرة" من الإسلام. سمح هذان العاملان (ثورة الطباعة ومحو أمية القراءة، وتراجع الدور الديني للعلماء التقليديين) للأفراد الميالين إلى التدين، الذين يتلقون تعليمهم عادةً في مؤسسات غير دينية وينخرطون في مهنٍ علمانية، بممارسة حقهم في تفسير النصوص الدينية بطريقتهم الخاصة. هؤلاء "المفكرون أو المثقفون" الإسلاميون تحدوا السلطة الدينية للعُلماء التقليديين، ونجحوا في كسب شعبية لأيديولوجيتهم الإسلامية.
الإسلام الشمولي والحركات الإسلامية الشمولية
بينما تقاوم الحركات الإسلامية قيم التحول الغربي والحداثة، شاملةً العلمنة أو تقسيم العمل الاجتماعي، ركَّزت تلك الحركات على المرجعية الإسلامية للمجال الاجتماعي بأكمله، عبر تبني مفهوم "الإسلام الشمولي" (يُراعى عدم خلط شمولية الإسلام بمفهوم شمولية النظام السياسي، المُستخدم في وصف أنظمة مثل كوريا الشمالية وألمانيا النازية) – المفهوم الذي قد يجعل نموذج حكم الشريعة "المتغول" أو حتى الشمولي سياسياً.
علاوةً على ذلك، فالحركات الإسلامية نفسها مصممة على أساسٍ من نموذج "الشمولية" هذا، الذي يتضافر فيه العمل الدعوي، والخيري، والتعليمي، والأنشطة السياسية.
ويُجادل البعض بأن العلاقة المُلتبسة بين السياسة والدين أو ثنائية العمل السياسي والدعوي في سياق الحركات الإسلامية يُمكن تفسيره بطبيعة الإسلام السياسية. وكثيراً ما يُجادَل بأن الإسلام هو "دينٌ سياسي بامتياز"؛ لأنه وُلِد كمجتمعٍ سياسي وديني، كطائفة ومجتمع في آن.
غير أن معضلة السياسية والدعوة – في رأيي – ظاهرة حديثة مرتبطة بصعود الحركة الإسلامية المعاصرة. وأصل هذه العلاقة الملتبسة يحدده بدقة تعريف حسن البنا للشمولية الإسلامية، الذي وضعه في واحدة من أشهر مقولاته:
نحن نعتقد أن أحكام الإسلام وتعاليمه شاملة تنتظم شؤون الناس في الدنيا والآخرة… فالإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنس، وخلق ومادة، وسماحة وقوة، وثقافة وقانون… دين ودولة، وحكومة وأمة، ومصحف وسيف، وخلافة من الله للمسلمين في أمم الأرض أجمعين.
المُربك في هذا التعريف ليس فقط الاتساع المُبالغ فيه للحيز الديني، وتقديس البنى والممارسات الاجتماعية الشائعة، بل أيضاً كيف تبنى البنا أسلوب الحركات الشاملة في تجسيد مفهوم شمولية الإسلام. عرَّف البنا جماعة الإخوان المسلمين بأنها دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، ومنظمة سياسية، ومجموعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية.
ومن الواضح أن البنا تأثر تأثراً كبيراً بالأيديولوجيات السياسية اليوتوبية ونماذجها الشمولية السياسية في التنظيم الاجتماعي، التي لاقت رواجاً واسعاً في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. ومن ثمَّ نجِد أن البنا قد اتخذ خطوتين استراتيجيتين كبيرتين في أوائل الأربعينات، على الرغم من حقيقة إعطائه الأولوية للإصلاح الاجتماعي عن طريق الدعوة الدينية والأنشطة الخيرية.
الأولى هي قراره بأن تنخرط جماعة الإخوان المسلمين في السياسات الحزبية وتشارك في الانتخابات البرلمانية لعامي 1941 و1945. والثانية تأسيس جناح مسلح للإخوان المسلمين (تحت اسم الجهاز السري) انخرط في أعمال العنف، ليس فقط ضد القوى الاستعمارية وصهاينة فلسطين، بل ضد خصوم الجماعة السياسيين المصريين.
منذ ذلك الحين، بدأت العلاقة المُلتبسة بين الجانبين السياسي والدعوي للجماعات الإسلامية؛ لأن هذين الجانبين لكلٍ منهما طرقه المميزة، في التنظيم والتجنيد والعضوية والنشاط والأهداف.
وبالتبعية، نشأت العديد من أوجه الخلل نتيجةً لهذه الطبيعة المزدوجة للحركات الإسلامية، مثل الافتقار إلى المعنية والاستراتيجيات المُبهمة: هل ينبغي إعطاء الأولوية للإصلاح الاجتماعي أم التغيير السياسي؟ هل تنخرط الحركة في السياسة بصفتها جماعة ضغط، أم حزباً سياسياً، أم حركة ثورية؟ هل تُدرِّب الحركة أعضاءها ليكونوا دعاة دينيين أم نشطاء سياسيين ورجال دولة؟.. إلخ. غير أن هذه الصيغة الشمولية للحركات الإسلامية أثبتت فاعلية كبيرة فيما يخص تجنيد الأعضاء وحشد الموارد، ما غطَّى بدرجةٍ ما على أوجه الخلل، ومنح الحركات الإسلامية حساً زائفاً بالإنجاز.
صعود الحركة الإسلامية التونسية
السياقات التي حفزَّت صعود الحركات الإسلامية الحديثة (أي الاستجابة للحداثة والتحول الغربي والعلمنة) وتصميمها الأيديولوجي والتنظيمي المُلتبس، تنطبق انطباقاً مثالياً على الحالة التونسية.
جاءت حركة الإصلاح الإسلامي في تونس إلى الوجود رداً على تهديد الهيمنة الإمبريالية والتأثير الغربي المتزايد على الشؤون الداخلية في البلاد في ثلاثينيات القرن التاسع عشر. حاول الإصلاحيون في ذلك العهد التأليف بين الإسلام والحداثة، مثل خير الدين باشا التونسي. غير أن الخطر الوجودي كان أكبر بعد الاحتلال الفرنسي لمصر في ثمانينيات القرن التاسع عشر، بسبب سياسات "الفرنسة" العنيفة. شنت القوى الاستعمارية هجوماً ضارياً على المنظمات الاجتماعية التقليدية، والهوية العربية والإسلامية للشعب التونسي. جاء الرد أولاً من المؤسسة الدينية التقليدية التاريخية في تونس: جامع الزيتونة، الذي كرس جهوداً كبيرة للتطوير الديني والتعليمي، بتأثير من الإصلاحي المصري محمد عبده. إضافةً إلى ذلك، تأسست حركة وطنية دفاعاً عن حق البلاد في الاستقلال، يرأسها قادة دينيون ملتزمون مثل عبد العزيز الثعالبي، حتى ثلاثينيات القرن الماضي حين استولى التيار العلماني على قيادة حركة التحرير التونسية.
غير أنَّ الإصلاحات الدينية والتعليمية التي أجراها جامع الزيتونة لم تتمخض عن تأسيس حركة إسلامية اجتماعية ناضجة، ولم تُفلِح كذلك مبادرات حركة التحرير الوطني. والمُثير للاهتمام أن تبلور الحركة الاجتماعية الإسلامية رداً على تهديدات التحول الغربي والعلمنة لم يتحقق في فترة الاستعمار الأوروبي، بل في دول ما بعد الاستقلال في عهد الحبيب بورقيبة.
بعد الاستقلال في 1956، أسس أول رؤساء الجمهورية التونسية، بورقيبة، نظاماً شبه شمولي، يستهدف تحديث الدولة من أعلى إلى أسفل على نموذج العلمانية الفرنسية، خاصة الجمهورية الفرنسية الثالثة. كان قمع بورقيبة لـ"البنية التحتية للإسلام المؤسسي في تونس" موسَّعاً؛ إذ أنهى نظام الأوقاف، وألغى المحاكم الإسلامية، وأغلق جامعة الزيتونة، وعَلمَن قوانين الأسرة، وانتقد بجرأة الشعائر الإسلامية، مثل الحجاب وصيام شهر رمضان.
هذه السياسات المُعادية للدين والمُوالية للغرب مثَّلت العامل الثقافي الذي حفز تأسيس الحركة الإسلامية في تونس في أواخر الستينيات. غير أن العوامل السياسية والاقتصادية كان لها دورٌ مهم أيضاً. أدَّى فشل المشاريع الأيديولوجية الأخرى، مثل الاشتراكية (بعد التجربة الكارثية لرئيس الوزراء أحمد بن صالح في الستينيات) والقومية العربية (بعد الهزيمة العربية المهينة في حرب 1967 مع إسرائيل)، إلى إعادة طرح مسألة الدين؛ لأن طريقاً آخر إلى الأمام لم يكن متوافراً وقتها لكثيرٍ من المفكرين. وأشار آخرون إلى مشاريع التنمية الاقتصادية الفاشلة، وغياب العدالة الاقتصادية، والفساد باعتبارها سياقاً جوهرياً لصعود الحركة الإسلامية التونسية. بفضل هذا السخط، تمكنت الحركة الإسلامية من تجنيد كثيرٍ من خائبي الأمل والمتضررين من مشاريع التنمية الاقتصادية الفاشلة.
سمحت كل هذه العوامل بصعود الحركة الإسلامية التونسية الحديثة، وتأسست ثلاث جماعات رئيسية بحلول نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات: الجماعة الأولى هي جماعة التبليغ والدعوة، الجماعة غير السياسية باكستانية الأصل. هدفها الرئيسي كان دعوة المسلمين إلى الالتزام بشعائر الإسلام. والجماعة الثانية هي حزب التحرير الإسلامي، الحزب أردني الأصل الذي يهدِف إلى إعادة تأسيس الخلافة الإسلامية. كانت الحركة الإسلامية صغيرة جداً في تونس، غير أنها شهدت نمواً ملحوظاً في أوائل الثمانينيات. الجماعة الأخيرة تُدعى الجماعة الإسلامية، وتأسست على يد عددٍ من خريجي الجامعة الشباب، منهم راشد الغنوشي، وعبد الفتاح مورو، وأحميدة النيفر في 1972. كانت الجماعة الأخيرة، لكنها سرعان ما صارت الأكبر والأكثر تأثيراً.
الاتجاهات الفكرية المؤسسة للأيديولوجية الإسلامية التونسية
فيما يخص الجماعة الإسلامية، التي مثلت أساس حزب حركة النهضة التونسي، فإنها بدأت حركة دينية خالصة، اقتصرت أنشطتها بشكلٍ رئيسي على نشر المبادئ الإسلامية في المساجد، وإصدار مجلة المعرفة التي تُخاطب موضوعاتٍ اجتماعية ودينية، وتعلم شباب الجماعة خُلُق الإسلام. غير أن نقاشاً أيديولوجياً استمر داخل الجماعة الإسلامية طوال سبعينيات القرن الماضي، بسبب تنوع وتباين الإرث الإسلامي الذي صنعت منه الجماعة أيديولوجيتها.
ناقش راشد الغنوشي تفصيلياً هذه الاتجاهات الأيديولوجية المتنافسة داخل الجماعة الإسلامية، وعدَّد ثلاثة عناصر فكرية تأسيسية:
المكون الأول هو التدين التونسي التقليدي، الذي يتكون بدوره من ثلاثة عناصر: المذهب الفقهي المالكي، والعقيدة الأشعرية، والتربية الصوفية الأخلاقية.
المكون الثاني هو التدين السلفي/الإخواني (من المشرق)، الذي أمدّ أيديولوجية الحركة الإسلامية التونسية بعددٍ من العناصر:
- المنهجية السلفية الساعية إلى مجابهة البِدع الدينية والعودة إلى إسلام صحابة الرسول، والتي ترفع النصوص الدينية فوق الاجتهاد العقلي.
- الفِكر السياسي الاجتماعي لجماعة الإخوان المسلمين، متمثلاً في مبادئ الإسلام الشمولي والحاكمية الإسلامية.
- منهجية التربية الدينية والأخلاقية التي تركز على قيم التقوى والإيمان والزُهد.
- طريقة التفكير الثنائية المؤدية إلى تصنيف الجماعات الأخرى على مقياس العقيدة إلى إخوان وأعداء، والتي تتبنى وجهة نظر أحادية الجانب، وترفض الثقافات الأخرى وحتى المدارس الإسلامية الأخرى.
أما المكون الأخير والأقل تطوراً هو التدين العقلاني.
يتميز هذا الاتجاه بانتقاد المكون السلفي الإخواني أكثر من اللازم، والانفتاح على المصادر الأيديولوجية الإسلامية الأخرى، بل والغربية، أكثر من اللازم. يستهدف هذا المكون إلى إعادة الاعتبار داخل الحركة الإسلامية لمدارس فكرية عديدة:
- التقليد الإسلامي العقلاني، المتمثل في إرث مدرسة المعتزلة والجماعات الإسلامية السياسية التقليدية الأخرى التي كانت في مرحلةٍ من التاريخ في خصومةٍ مع أهل السنة، مثل الشيعة والخوارج.
- المدرسة الإصلاحية الإسلامية في القرن التاسع عشر، التي تتضمن جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي. هذه المدرسة، وفقاً للغنوشي، أهملها تماماً الاتجاه السلفي/الإخواني، واتهمها بتبني نسخة محرفة من الإسلام.
- مدرس مقاصد الشريعة، التي تدعو إلى تبني تفسيرٍ غائي – عوضاً عن التفسير الحرفي والنصي – للإسلام.
- الأيديولوجيا الغربية (خاصة الاتجاهات اليسارية) وإسهاماتها الحضارية وإسهاماتها في العلوم الاجتماعية.
كل هذا التراث وهذه الاتجاهات المختلفة تفاعلت وتنافست مع بعضها البعض داخل الجماعة الإسلامية طوال سبعينات القرن الماضي. غير أنَّها نجحت في النهاية، وفقاً للغنوشي، في التوصل إلى تنازلاتٍ وتعايشات مشتركة، بغض النظر عن انشقاق المجموعة الممثلة لاتجاه العقلانية الإسلامية في 1978 وتشكيلها جماعة "الإسلاميين التقدميين". ولاحقاً، في أغسطس 1979، نظمت قيادة الجماعة الإسلامية مؤتمراً تأسيسياً جمع ستين عضواً يمثلون كل خلايا الحركة. انعقد المؤتمر في سرية، واتفق الممثلون على هيكل المنظمة وأدوارها الرئيسية.
حركة الاتجاه الإسلامي
كان التحول الأول للحركة الإسلامية التونسية نتيجة للعديد من التطورات التنظيمية والمحلية والإقليمية. في 1978، اندلعت صدامات دموية بين الاتحاد العام التونسي للشغل، وقوات الأمن بسبب مطالب اجتماعية. فتحت هذه الاحتجاجات، رغم قمعها بوحشية، فرصة للتحرر السياسي في عامي 1980 و1981.
قرر بورقيبة، من أجل احتواء السخط الاجتماعي المتصاعد، تخفيف الاحتقان السياسي عن طريق تعيين سياسيين إصلاحيين في مناصب وزارية، والإفراج عن المعتقلين السياسيين وأعضاء الاتحادات التجارية، وتقديم وعودٍ بالسماح بمزيدٍ من التعددية السياسية.
من ناحية أخرى، في الخامس من ديسمبر/كانون الأول 1980، كشفت الشرطة عن التنظيم السري للجماعة الإسلامية. استجابت الجماعة بفرصة الانفتاح السياسي ولهذا التهديد الأمني بقرار عقد مؤتمرها الثاني (في التاسع والعاشر من أبريل/نيسان 1981) من أجل تقديم الأوراق الرسمية لإنشاء حزبٍ سياسي، مُعلنة ضرورة اللجوء إلى الأنشطة المفتوحة. وفي السادس من يونيو/حزيران 1981، أُعلن عن تحول الجماعة الإسلامية إلى حركة الاتجاه الإسلامي.
إضافةً إلى هذه التطورات، تأثرت أيديولوجية الحركة الإسلامية التونسية تأثراً كبيراً بعوامل إقليمية.
ذكر راشد الغنوشي أن الثورة الإيرانية كان لها تأثيرٌ كبير على أيديولوجية الجماعة الإسلامية، إذ صارت الحركة الإسلامية التونسية بفضلها أكثر تسيساً وأكثر وعياً بالأسس الاجتماعية الاقتصادية لصراعها، وأكثر انفتاحاً على التحالفات مع الجماعات السياسية غير الإسلامية.
وأشار الغنوشي أيضاً إلى تأثير الحركة الإسلامية السودانية على الأيديولوجية الإسلامية التونسية، وكيف ساعدت الإسلاميين التونسيين على تجاوز التقاليد المحافظة السلفية/الإخوانية بخصوص بعض القضايا، خاصةً حقوق المرأة.
غير أن مراجعة الوثيقة التأسيسية لحركة الاتجاه الإسلامي تُظهر أنَّها ما زالت تحمل بصمة جماعة الإخوان المسلمين. هذه الوثيقة، الصادرة في يونيو/حزيران 1981، تميزت بأربع سماتٍ معتادة من سمات حركات الإسلام السياسي:
الأولى: أنها أعلنت تبنيها للصيغة الشمولية من الإسلام، مؤكدة أن السياسة والدين متلازمان لا ينفصلان، وعلى التزامها بممارسة السياسية دون التلوث بالعلمانية أو البراغماتية. والأكثر من ذلك أنها وصفت الدعوة إلى الفصل بين السياسة والدين باعتبارها مفهوماً نصرانياً مُقحَماً على الإسلام، وامتداداً لشرور الحداثة.
الثانية: أنها ركزت على سياسات الهوية، جاعلةً أول مهمتين من مهامها هي إعادة إحياء الهوية الإسلامية التونسية وتجديد الفكر الإسلامي.
الثالثة: هي تبني أيديولوجية وحدة إسلامية تبنياً واضحاً، عبر إلزام نفسها بمهمة الإسهام في استعادة الكيانات السياسية والحضارية الإسلامية على كل المستويات: محلياً وإقليمياً ودولياً.
الرابعة: أنها عددت مزيجاً من الوسائل الدينية والسياسية من أجل الوصول إلى أهدافها. شملت هذه الوسائل استعادة الدور الأصلي للمساجد باعتبارها دور العبادة ومراكز الحشد الشعبي، وإطلاق حركة ثقافية إسلامية، ومقاومة السلطوية، وتطوير نموذج حديث للحكم الإسلامي وتجسيده، وتطوير مبادئ الإسلام الاجتماعي وتطبيقها.
وجد النظام التونسي أيديولوجية الحركة وأنشطتها خطيرة جداً على مشروع بورقيبة للتحديث والعلمنة. والأكثر من ذلك، أن الحركة أعلنت في مؤتمرها في أبريل/نيسان 1981 أن الحزب الحاكم هو "العدو الرئيسي"، وأنه من الضروري تشكيل تحالف واسع مع جماعات المعارضة الأخرى بهدف إسقاط النظام.
ومن ثمَّ كان رد فعل السلطات التونسية العنيف تجاه صعود الإسلاموية.
أولاً، رفض النظام منح التصاريح القانونية لحزب حركة الاتجاه الإسلامي، ثمَّ اعتقل النظام قيادت الحركة وحاكمهم في صيف 1981، وبقي الغنوشي في السجن حتى 1984. وفي صحوة انتفاضة الخبز عام 1984، بعد فترة قصيرة من تخفيف حدة التصعيد السياسي، بدأت موجة ثانية من القمع في سبتمبر/أيلول 1987، تعرض فيها المئات من قيادات الحركة الإسلامية وأعضائها للاضطهاد، وحُكِم على الغنوشي بالسجن مدى الحياة.
حزب حركة النهضة
بعد شهرين من الاضطهاد، وقع حدثٌ كبير في السياسة التونسية قدم فرصاً وتهديداتٍ جديدة للحركة الإسلامية التونسية. في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1987، أطاح رئيس الوزراء زين العابدين بن علي بالرئيس المتقدم في السن بورقيبة، وأعلن أنَّه غير لائق طبياً واستحوذ على منصب الرئيس بموجب المادة 57 من الدستور.
حاول بن علي في البداية تثبيت شرعيته بوعودٍ بالتحول الديمقراطي وتأسيس نظامٍ سياسي تعددي، وهي وعودٌ لن يلتزم بها. وبخصوص العلاقة مع الإسلاميين، وعد بن علي بإيجاد "حلٍ سعيدٍ ونهائي" للمشكلة الإسلامية. وعلى هذا الأساس اتخذ النظام خطواتٍ عديدة لطمأنة الحركة الإسلامية والحصول على دعمها.
أولاً، أوقف بن علي قمع النشطاء الإسلاميين، ومنح العفو الرئاسي للمساجين، وسمح للمنفيين بالعودة.
وثانياً، سمح النظام للحركة بالمشاركة في المجلس الأعلى للانعقاد الوطني في نهاية 1988، ومثَّلها في المجلس الإسلامي الأعلى قائدها في أوائل 1989. أيضاً، سُمِح للحركة بتكوين اتحاد طلاب إسلامي ومنحها حق نشر مجلة الفجر. وأخيراً، سمح النظام للحركة بالمشاركة في انتخابات 1989 البرلمانية.
كانت استجابة الحركة من جانبها لهذه الرسائل الائتلافية إيجابية. وأعلنت عن دعمها للنظام الجديد وبن علي في الانتخابات الرئاسية.
وتقبلت الحركة الميثاق الوطني رغم مواقفه العلمانية المتطرفة. علاوةً على ذلك، قرر التنظيم تغيير اسمه إلى حزب حركة النهضة، وحذف كلمة الإسلامية من العنوان، ومراجعة أيديولوجيتها وجعلها أكثر اعتدالاً، من أجل طمأنة النظام الجديد والاتساق مع القانون التونسي المنظم للأحزاب السياسية التي تحظر الأحزاب الدينية.
ورغم أن البرنامج الحزبي الجديد لم يبدُ مختلفاً كثيراً عن الوثيقة التأسيسية لحركة الاتجاه الإسلامي، فقد أظهر خصائص أكثر ليبرالية وديمقراطية.
ركَّز البرنامج على سيادة الشعب وضرورة تمكين المجتمع المدني. وأعلن أيضاً الحفاظ على النظام الجمهوري وأساساته هدفاً مركزياً للبرنامج. ومن ثمَّ زعم البعض إن حزب حركة النهضة كان إيذاناً بانفصال الحركة الإسلامية التونسية عن الحركات الكلاسيكية الممثلة للإسلام السياسي، وبالأخص الإخوان المسلمين.
في الواقع، العلاقة بين حركة النهضة وجماعة الإخوان إشكالية بعض الشيء. لا شك أن مؤسسي حركة النهضة (راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو) قد تأثروا بشدة بمفكري الجماعة (حسن البنا وسيد قطب). غير أنَّهم تبنوا نُسخة مُختلفة من أيديولوجية الإخوان المسلمين، وخلطوا، وخلطوها بمصادر فكرية أخرى تتضمن الإرث التونسي الإصلاحي، ومفكري الإسلام السياسي الشيعة (الخُميني والصدر وعلي شريعتي)، والأيديولوجيات السياسية الغربية.
ونظراً للروابط التنظيمية بين حزب حركة النهضة والإخوان المسلمين، يتأكد أن الحركة الإسلامية التونسية كانت جزءاً من الكيان الدولي للإخوان المسلمين، حتى وإن كان هذا الكيان مفككاً سيئ التنظيم. وأفاد محمد حمدي بأن قرار الحركة الإسلامية التونسية بالانضمام إلى الكيان الدولي للإخوان المسلمين اتُّخِذ مبكراً في مؤتمر الجماعة الإسلامية عام 1979.
المواجهة مع نظام بن علي
هذه المُصالحة بين نظام بن علي والحركة الإسلامية التونسية انتهت بعد انتخابات 1989. منذ البداية، كان كل طرفٍ متشكك في النوايا الحقيقية للطرف الآخر. كان هدف بن علي هو تخفيف التوترات مع الإسلاميين دون الاستجابة لمطالبهم الرئيسية، التي شملت الاعتراف الرسمي بحزبهم.
من جانبه، أعلن الغنوشي عند إطلاق سراحه في مايو/أيار 1988 أن ولاء الإسلاميين للحاكم الجديد مشروطٌ بوعده بتنفيذ الديمقراطية واستعادة الهوية العربية والإسلامية في تونس.
مرة أخرى، كان الفِراق بين النظام التونسي والحركة الإسلامية نتيجة لعوامل محلية وإقليمية. أول نقطة خلافٍ كانت الصدام مع حزب الرئيس (التجمع الدستوري الديمقراطي) في انتخابات 1989، التي غيرت فيها حزب حركة النهضة استراتيجيتها من جماعة سياسية تسعى إلى الاعتراف القانوني بها والفوز بمقاعد محدودة بالبرلمان، إلى حزب يُنافس بشراسة على أغلبية مقاعد البرلمان ويقدم بديلاً إسلامياً جاداً. وحين فشلت الحركة في الفوز بأي مقاعد في البرلمان، رغم حلولها في المركز الثاني بعد الحزب الحاكم، احتجت قياداتها واتهمت الحكومة بتزوير الانتخابات.
وكان لعوامل إقليمية مهمة أخرى دور في تأجيج هذه المواجهة. سعى حزب حركة النهضة، مستغلاً فرصة حرب الخليج بعد الغزو العراقي للكويت في 1990، إلى حشد الرأي العام ضد الحكومة التونسية، رافعاً شعاراتٍ حادة منها "أسقطوا النظام".
وشنَّ النظام موجة ثالثة من القمع على حركة النهضة في أواخر عام 1990 رداً على ذلك. خضع مئات من قيادات الحركة وأعضائها للمحاكمة أو أُجبروا على القرار إلى المنفى، وحُظرَت جريدتها الرسمية "الفجر"، وصدر قرار بحل منظمتها الطلابية. ولاحقاً، ألقت الحرب الأهلية الدموية، بين جبهة الخلاص الإسلامية وبين النظام الجزائري في جارة تونس، بظِلالها على العلاقة بين الإسلاميين وبين النظام التونسي في تسعينات القرن الماضي.
وفي المنفى، ترسَّخ التحول الليبرالي الديمقراطي لأيديولوجيا حزب حركة النهضة. بدأ الغنوشي، الذي غادر تونس إلى المنفى بعد انتخابات 1989، في الترويج لنموذج إسلامي ديمقراطي يمثل تزاوجاً بين نظام القيم والأخلاق الإسلامية من جانبٍ وبين الإجراءات الديمقراطية من الجانب الآخر. آمن الغنوشي بالتوافق بين الديمقراطية والإسلام، وجادل بأن "النظام الديمقراطي كما عمل في إطار القيم المسيحية وأنتج الديمقراطية المسيحية، وكما عمل في إطار الفلسفة الاشتراكية فأنتج الاشتراكية الديمقراطية"، يمكنه أن يعمل بذات المنطق في إطار القيم الإسلامية فينتج ديمقراطية إسلامية. في هذا النموذج، تمتزج القيم السياسية الإسلامية مِثل الشورى والعدل والمنفعة العامة بالمبادئ والأدوات الليبرالية الديمقراطية (مثل الفصل بين السلطات، والانتخابات الحرة النزيهة، وتداول السلطات، والمواطنة، والحريات المدنية والسياسية، وحقوق الإنسان، وتمكين المجتمع المدني).
ومع صعود السلفية الراديكالية العنيفة منذ بداية الألفينات، في الداخل التونسي ودولياً، صار حزب حركة النهضة أكثر حرصاً على تأكيد اعتداله، وإدانة الإرهاب الإسلامي المتطرف بصرامة، وتوبيخ الأنظمة السلطوية في المنطقة في الوقت نفسه، محملاً إياها المسؤولية عن انتشار التطرف بسبب غياب الحريات وفرض السياسات العلمانية قسراً.
حزب حركة النهضة في الربيع العربي
بعد عقدين من الإقصاء السياسي والقمع، انفتحت نافذة جديدة على مصراعيها لحزب حركة النهضة مع اندلاع الثورة التونسية في 2011. مع تصاعد السخط على السياسات الاقتصادية الفاشلة، والفساد المستشري، والمعارضة السياسية، وبعد انتحار محمد بوعزيزي المأساوي، اندلعت تظاهرات حاشدة في تونس، بين السابع عشر من ديسمبر/كانون الأول 2010 والرابع عشر من يناير/كانون الثاني 2011. تفاجأ النظام التونسي بنطاق والتظاهرات وعفويتها، وبن علي هرب بعد بضع محاولات فاشلة في احتواء الاحتجاجات وقمعها.
ورغم حقيقة أن حزب حركة النهضة لم يشعل فتيل الثورة التونسية ولم يكن على رأس القوى المشاركة فيها، كان من المتوقع حصوله على مكاسب سياسية هائلة في النظام الجديد. حازت الحركة شعبية وثقة واسعة في فترة ما بعد بِن علي، كونها أكبر الفصائل السياسية المُعارضة للنظام الساقط وأحد أكبر أهداف القمع والإقصاء في عهده.
وكان على حركة النهضة إعادة تنظيم الحزب استغلالاً للفرصة، وتسوية خلافاته الداخلية، وتقديم طلب بتسجيل الحزب قانونياً، وهو ما حصل عليه الحزب، أخيراً، في مارس/آذار 2011. علاوة على ذلك، من أجل تقوية وضعها السياسي في النظام الجديد والحفاظ عليه، أسس حزب حركة النهضة تحالفاً مع الأحزاب العلمانية المعتدلة، وتبنى خطاباً ائتلافياً يضمن تأييد عددٍ من مكونات المجتمع التونسي.
أثبتت هذه الخطوات مُناسبتها للوضع، إذ حقق حزب حركة النهضة أكبر حصة من المقاعد في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي (التي انعقدت في أكتوبر/تشرين الأول 2011). ونتيجةً لذلك تشكّل التحالف الثلاثي (وهو تحالف سياسي نكون من ثلاثة أحزاب: حزب حركة النهضة، والمؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل الديمقراطي للعمل والحريات) الذي حكم تونس في عصر ما بعد بن علي وشكَّل حكومتين متعقبتين يرأسهما القياديين بحزب حركة النهضة، حمادي الجبالي وعلي العريّض.
غير أن الصعود السياسي لحزب حركة النهضة أشعل فتيل استقطاب سياسي حاد بين التوجهات العلمانية والإسلامية في تونس. انخرط كلاهما في صراعٍ ممتد استُخدمت فيه العديد من الاستراتيجيات: الإضرابات، والاعتصامات، والصدامات في الشارع، وحملات القوائم السوداء، والوعظ الديني. تمحور الصراع حول كثيرٍ من القضايا، مثل الحريات المدنية في الدستور، والعدالة الانتقالية، وتقنين الشريعة، والعزل السياسي لرموز النظام القديم. وفي صيف 2013، وصل الصراع السياسي إلى أوجه، تأثراً بالانقلاب العسكري في مصر، وزادت مخاطر انهيار عملية التحول الديمقراطي. غير أن تونس، في يناير/كانون الثاني 2014، تمكنت على ما يبدو من تفادي هذا المصير الكارثي بواسطة مفاوضاتٍ ناجحة بين الخصوم المتناحرين، مكَّنتهم من التوصل إلى دستور متفقٍ عليه وحكومة ائتلافٍ وطني.
المؤتمر العاشر لحزب حركة النهضة
بعد النجاة من الأزمة بالغة الخطوة في صيف 2013، ونتيجةً لتراجع حزب حركة النهضة في الانتخابات البرلمانية في أكتوبر/تشرين الأول 2014، ظنَّ قادة الحزب أن الوقت مناسبٌ للتطور. وبدأوا في التجهيز للمؤتمر العاشر للحركة. ومن بين القضايا العديدة التي تمت مناقشتها، كانت الأولوية القصوى هي موضوع العلاقة بين الأنشطة الدينية والأنشطة السياسية للحركة.
روَّج قادة الحزب وثيقةً لقواعد الحركة، تُدافع عن الفصل بين العمل السياسي والدعوي وتدفع بأن هذا الفصل سيضمن مزيداً من الفعالية والمهنية للحزب، وسيتسق مع قوانين الأحزاب السياسية في تونس. خضع هذا القرار لمناقشاتٍ وحواراتٍ موسعة في 279 مؤتمراً داخلياً محلياً، و24 مؤتمراً إقليمياً، و8 مؤتمرات قطاعية، شارك في أكثر من 6 آلاف مندوبٍ من الحزب، حتى مرر الحزب الوثيقة أخيراً بنسبة 80.8%.
وما إن حصلت الوثيقة على الموافقة، ثارت موجة من الجدليات والجدليات المضادة. دعم بعض المعلقين القرار، واعتبروه خطوة مهمة نحو المزيد من التطوير السياسي. وانتقده آخرون، زاعمين أنَّه قرارٌ براغماتي مُخادِع، وتنازلٌ مخزٍ. جادل البعض بأنه قرارٌ تاريخي، وآمن آخرون بأنه ليس بكل هذه الأهمية، ويُبرز وضع الحركة القائم بالفعل، خاصةً بعد الربيع العربي.
يصعب فهم المعنى والأهمية الحقيقية لهذا القرار، وسط كل هذه الجدليات والجدليات المضادة. على كل حال، يبدو أن حركة النهضة تحاول إعادة تصنيف نفسها بواسطة أيديولوجية جديدة وبنية جديدة.
قررت الحركة فيما يخص الأيديولوجية هَجر سياسات الهوية لحساب سياسة أكثر عملية متمركزة حول السياسات.
صرَّح الغنوشي في كلمته بأن "الدولة العصرية لا تدار بالأيديولوجيا والشعارات الفضفاضة والمزايدات، بل بالبرامج والحلول الاجتماعية والاقتصادية التي تحقق الأمن والرفاه".
وقررت الحركة أيضاً التخلي عن الأجندة الإسلامية العالمية التقليدية المميزة لحركات الإسلام السياسي، وتبنت أجندة وطنية تركز على القضايا التونسية.
من الناحية الهيكلية، يعني هذا القرار أن الحركة ستُصبح حزباً كلاسيكياً وتتخلى عن وظيفة الدعوة الدينية.
قال الغنوشي: "إننا حريصون على النأي بالدِّين عن المعارك السياسية ، وندعو الى التحييد الكامل للمساجد عن خصومات السياسة والتوظيف الحزبي". يعني القرار أيضاً أن الروابط التنظيمية بين حركة النهضة وكيان الإخوان المُسلمين الدولي ستزداد ضعفاً، إن لم تُقطع الروابط كليةً.
غير أن أهمية هذا القرار في اعتقادي مُبالغٌ فيها، وكان رد الفعل عليه مُفرطاً. فالواضح أن هذه التغيرات في بنية الحركة وأيديولوجيتها لا تمثِّل تحولاً شديداً ولا مفاجئاً وغير متوقعٍ في مسار تطور حركة النهضة. وأيضاً لا يعني القرار بالضرورة علمنة بنية الحركة أو أيديولوجيتها.
هيكلياً، هو مجرد "تخصص وظيفي" كما صرَّح الغنوشي بوضوح. أما بخصوص الأيديولوجية، فقد هاجم الغنوشي متطرفي العلمانيين في كلمته الرئيسية، وأعطى الدين دوراً مهماً بصفته "محركاً للتنمية، والحث على العمل والبذل، والصدق والنزاهة، ونظافة اليد، وقوة دفع في حربنا على الدواعش والتكفيريين ومساندة جهد الدولة في التنمية".
خاتمة: هل وصلت الإسلاموية إلى نهايتها؟
تبع المسار الطويل لتحولات الحركة الإسلامية التونسية يفند خُرافة الطبيعة المتحجرة للإسلاموية، ويُظهر تشكل أيديولوجيتها وبُناها تشكلاً كبيراً بفعل عوامل محلية وإقليمية. بدأت حركة النهضة جماعة دينية خالصة في سبعينيات القرن الماضي، تهدف إلى مقاومة نظام بورقيبة العلماني بواسطة الأنشطة الدينية والثقافية. ثم تسيَّست الحركة في الثمانينيات، بفضل كثيرٍ من العوامل من ضمنها الثورة الإيرانية، وكوَّنت حركة إسلامٍ سياسي كلاسيكية بأجندة وحدة إسلامية. ومنذ عام 1989 وحتى بدايات الألفينات، تحولت الحركة إلى حزبٍ إسلامي غير تقليدي يتبنى نسخة ليبرالية ديمقراطية من الإسلاموية. وأخيراً، صار الحزب منذ الربيع العربي ما يُمكن تسميته بحركة ما بعد إسلامية، ترفض التسييس المُبالغ فيه للإسلام وأدلجته، وفي الوقت نفسه تعترف بدوره كمرجعية للحياة الاجتماعية وموجهاً لها.
ومن ثمَّ، يكون من المبالغة الدفع بأن التطور الأخير في حركة النهضة علامة على سقوط الإسلاموية. بدلاً من ذلك، ينبغي رؤية القرار بصفته تحولاً جديداً تشهده الإسلامية إلى شكلٍ مغاير أقل تسيساً وأكثر ثقافية، وبصفته نوعاً من إعادة التشكل التنظيمي بعد انتهاء صلاحية الصيغة الشمولية للحركات الاجتماعية. ما قد ينتهي هو عصر حركات الوحدة الإسلامية الشمولية، لكن الإسلاموية بصفتها "النشاط السياسي والحشد الشعبي باسم الإسلام" ما زالت موجودة، ويبدو أنها ستظل موجودة لأجل غير معلوم.
هوامش
1- Hussein Ibish, "Islamism Is Dead! Long Live Muslim Democrats" http://www.nytimes.com/2016/06/03/opinion/tunisias-new-revolution.html?_r=0 (accessed: 5 Jun. 2016)
2- ANSA med Report: "Tunisia: Gannouchi, Ennhadha out of political Islam"
http://www.ansamed.info/ansamed/en/news/sections/politics/2016/05/19/tunisia-gannouchi-ennhadha-out-of-political-islam_1186d693-0121-47bf-8211-886b50b9caf8.html (accessed: 6 Jun. 2016)
3- Sarah J. Feuer, "From Political Islam to Muslim Democracy: Tunisia's Ennahda Changes Course"
https://www.foreignaffairs.com/articles/tunisia/2016-06-08/political-islam-muslim-democracy (accessed: 8 Jun. 2016)
4- Ryan Rifai, "Tunisia's Ennahda distances itself from political Islam
http://www.aljazeera.com/news/2016/05/tunisia-ennahda-distances-political-islam-160520172957296.html (accessed: 6 Jun. 2016)
5- Sarah Souli, "Why Tunisia's top Islamist party rebranded itself"
http://www.al-monitor.com/pulse/originals/2016/05/tunisia-ennahda-islamist-party-rebranding-congress.html (accessed: 5 Jun. 2016)
6- Adil Essabiti and Hamdi Yıldız, "Al Ghannushi: tawajuh al-nahdah nahwa tamayuz al-Syāsi 'an al-Da'wai nudj yansajem ma' al-dusutur", Anadolu Agency http://goo.gl/QgrPpp (accessed:5 Jun. 2016)
7- Tamimi, Azzam. Article: 'Awdah 'ela al-Faṣl Bain al-Syāsi wa al-Da'wai, Arabi 21 http://goo.gl/x3c03p (accessed: 5 Jun. 2016)
8- Mohammed Ayoob, The Many Faces of Political Islam: Religion and Politics in The Muslim World (Singapore: NUS Press, 2006), 6.
9- Kjetil Selvik and Stig Stenslie, Stability and change in the modern Middle East (London, New York: I.B. Tauris, 2011),131.
10- Ayoob, The many faces of political Islam, 34.
11- William E. Shepard, "Islam and Ideology: Towards a Typology", International Journal of Middle East Studies19, 3 (1987), 315.
12- Hassan Rachik, "How religion turns into ideology", The Journal of North African Studies 14 (2009): 351-352.
13- Ayoob, The many faces of political Islam, 27-29.
14- Crawford Young, The Politics of Cultural Pluralism (Madison: The University of Wisconsin Press, 1976), 54.
15- Olivier Roy (trans. by Carol Volk), The Failure of Political Islam (Cambridge, Massachusetts: Harvard University Press, 2001), 12.
16- al-Banna, Hassan. Majmw'at Rasā'il al-Imām al-Shahid Ḥassan al-Bannā (Beirut: Dār al-Ḥaḍārah al-Islāmiyyah, 1987), 356.
17- Ibid, 122-123.
18- Kristen Stilt, "Islam is the Solution: Constitutional Visions of the Egyptian Muslim Brotherhood", Texas International Law Journal 46 (2010):77.
19- See: Salah al-Din al-Gourshi, "al-Ḥarakah al-Islāmiyyah Mostaqbalha Rahin al-Taghiurāt al-Jaḏriyyah", in Abdullah al-Nafisi (Ed.), al-Ḥarakah al-Islāmiyyah: Ro'iah Mostaqbaliyyah – Awrāq Fi al-Naqd al-Ḏāti (Kuwait, Afaq, 2012), 121-134.
20- Rachid al-Ghannoshi, min tajrebat al-haraka al-islamiah fi tunis, (Maghreb centre for research & translation, London: 1999), 96 – 99.
21- Azmi Bishara, al-thawrq al-tunisiah al-majedah (Arab Center For Research & Policy Studies, Doha: 2012), 158, 163.
22- Mohamed Hamdi, The politicization of Islam: a case study of Tunisia (Colorado; Oxford, Westview Press, 1998), 13.
23- Ibid, 9-11.
24- Ibid, 12.
25- Alaya Allani, "The Islamists in Tunisia between confrontation and participation: 1980–2008", The Journal of North African Studies, 14:2 (2009): 258. Hamdi, The politicization of Islam, 16.
26- Allani, "The Islamists in Tunisia between confrontation and participation", 258.
27- al-Ghannoshi, min tajrebat al-haraka al-islamiah fi tunis, 83 – 84.
28- Ibid, 85 – 86. Hamdi, The politicization of Islam,7.
29- Allani, "The Islamists in Tunisia between confrontation and participation", 260.
30- Bishara, al-thawrq al-tunisiah al-majedah, 73 – 75.
31- Allani, "The Islamists in Tunisia between confrontation and participation", 260.
32- al-Ghannoshi, min tajrebat al-haraka al-islamiah fi tunis, 88 – 89.
33- Ibid, 285 – 290.
34- Allani, "The Islamists in Tunisia between confrontation and participation", 260.
35- Bishara, al-thawrq al-tunisiah al-majedah, 173. Allani, "The Islamists in Tunisia between confrontation and participation", 261-263.
36- Hamdi, The politicization of Islam, 58, 61.
37- Ibid, 64.
38- Allani, "The Islamists in Tunisia between confrontation and participation", 263.
39- al-Ghannoshi, min tajrebat al-haraka al-islamiah fi tunis,141
40- Bishara, al-thawrq al-tunisiah al-majedah, 173 – 174.
41- Hamdi, The politicization of Islam, 67.
42- Bishara, al-thawrq al-tunisiah al-majedah, 173.
43- Ibid, 174.
44- Basheer Nafi, Article: Tunisia's Ennahda can change its discourse, but not the reality of political Islam", Middle East Eye
http://www.middleeasteye.net/columns/tunisias-ennahda-can-change-its-discourse-not-reality-political-islam-1737542604 (accessed:6 Jun. 2016)
45- Hamdi, The politicization of Islam,35.
46- Ibid, 64.
47- Ibid, 68-69.
48- Allani, "The Islamists in Tunisia between confrontation and participation", 265.
49- Ibid, 258
50- Azzam Tamimi, Rachid Ghannoushi: A Democrat within Islamism (London: Oxford University Press, 2001), 104.
51- Allani, "The Islamists in Tunisia between confrontation and participation", 265 – 266.
52- Bilal al-Talidy, al-islamyoun wa al-rabea' al-a'arabi: al-sua'oud, al-tahdiat, tadbir al-hokm (Biuret: Namaa for research and studies center, 2012), 23 – 24.
53- Ibid, 131, 148
54- Anwer al-Jama'awy, "al-mashehad al-syasi fi Tunis: al-darb al-taweel nahwa al-tawafoq", syasat arabia 6 (2014): 2-3.
55- See: Abd al-Fattah Madi, "'amalyat al-hewar b'ad entifadat 2011 al-arabia", Papers of Cordoba Foundation (2016): 20 – 32.
56- Intissar Kherigi, "Ennahdha's Separation of the Religious and the Political: A Historic Change or a Risky Maneuver?", Al-Sharq Analysis (2016), 7-8.
57- Azzam Tamimi, " 'Awdah 'ela al-Faṣl Bain al-Syāsi wa al-Da'wai", Arabi 21 http://goo.gl/x3c03p (accessed: 5 Jun. 2016)
Basheer Nafi, " Tunisia's Ennahda can change its discourse, but not the reality of political Islam", Middle East Eye
http://www.middleeasteye.net/columns/tunisias-ennahda-can-change-its-discourse-not-reality-political-islam-1737542604 (accessed:6 Jun. 2016)
58- Official International Ennahda Page on Facebook (accessed: 5 Jun. 2016)
Transcript of #Ennahdha president @r_ghannouchi's speech at the opening ceremony of the tenth party conference:In the…
Gepostet von Ennahdha International Page (Official) am Samstag, 21. Mai 2016
59- Ibid.
60- Ibid.
61- Ibid.
62- Ayoob, The many faces of political Islam,6
– هذا الموضوع مترجم عن منتدى الشرق. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.