أصبحت ظاهرة مقلقة تهدد تعهدات الحكومة للقوائم الانتخابية ولبعض المرجعيات والبيوتات والمشيخات بإجراء انتخابات حرة ونزيهة، خصوصاً مع اتساع مساحة جمهور أنصار قائمة الفتح في الكثير من الدوائر الانتخابية لدرجة أن العديد من القيادات السياسيّة والدينية قد أظهرت قلقها بسبب هذه الظاهرة. المرجعيات والبيوتات والمشيخات الشيعية أخذت في إصدار التوصيات المباشرة بمشاركة انتخابية مقيَّدة بمواصفات معينة، وهناك من يهتم بتوصيات مرجعية النجف، التي قد تكون حاضرةً خلال يوم الاقتراع، في إطار مبادرة لإغاثة الناخب العراقي الحيران.
هذا تطور لافت جداً. صحيح أن معظم البيوتات النجفية والكربلائية والكوفية والكظماوية والقُمّية كانت -ولا تزال- قائدة لكُتل وأحزاب وقوائم وتيارات "سياسية وانتخابية". ولكنها اليوم يبدو أنها متخوفة من الصعود المتزايد لشعبية قائمة الفتح (أبرز القوائم السياسية التي تحمل أوراق المطالبة بحقوق الحشد الشعبي)، وهي قائمة سياسية جديدة أكثر مما هي زعامة دينية.
هنالك قراءتان لتحركاتها:
1- إما أنها -تفعل كما فعلت قائمة منظمة بدر في 2014- استقلت عن المجلس الأعلى وثبَّتت جمهورها وحضورها الكبير، وركبت موجة تصحيح وتعديل التوازنات داخل البيت السياسي الشيعي.
2- وإما أنها تملك رصيداً، ولا يمكن أن تغامر وتخسره؛ ومن ثم فإنها تريد أن تفعل كما فعلت دولة القانون في 2010؛ استحوذت على زعامة البيت السياسي الشيعي.. في المقابل، لا تنكر الجهات المشرفة على الانتخابات -والتي تعهدت بنزاهتها- عدم وجود قانون أو فقرة تمنع أنصار قائمة الفتح من الترويج أو استخدام إنجازاتهم العسكرية وبطولاتهم في الدعاية الانتخابية.
ورغم تفشي الحديث عن أنصار قائمة الفتح، لم يتقدم أي كيان سياسي أو جهة منافسةٍ ببلاغ رسمي يعترض على استخدامهم اسم الحشد الشعبي في الدعاية الانتخابية. وﻳﻌﺘﺮف ﻣﺴؤولون ﻛﺒﺎر ﺑﺄن ﺣﻀﻮر أنصار قائمة الفتح ﻓﻲ اﻟﻤﺤﺎفظات الجنوبية ذات اﻟﺜﻘﻞ اﻟﻌﺸﺎﺋﺮي ﻣﻌﻘﻮل أو ﻳﻤﻜﻦ تعزيزه، ﻟﻜﻦ ﻧﺴﺒﺔ حضورهم بمحافظات الفرات الأوسط وﻓﻲ ﻣدن ﻛﺒﯿﺮة وﻛﺜﯿﻔﺔ ﻣﺜﻞ بابل وكربلاء والنجف ﻣﺎ زاﻟﺖ ﻣﻘﻠﻘﺔ ﺟﺪاً؛ بسبب عدم تفاعل المواطنين مع حملاتهم الانتخابية بشكل كبير.
وﻋﻠﻰ ﺻﻌﯿﺪ آﺧﺮ، ﺑﺪأت فعاليات ومؤسسات المجتمع المدني ﺗﻘﺪِّر ﻣﺒﻜﺮاً ن ﻧﺴﺒﺔ اﻟﻤﺸﺎرﻛﯿﻦ ﻓﻲ الاﻧﺘﺨﺎﺑﺎت، اﻟﻤﻘﺮرة ﻓﻲ 12 مايو/أيار 2018، قد تكون متدنيةً، اﻷﻣﺮ اﻟﺬي يهدد ﺿﻤﻨﯿﺎً حظوظ من لا يمتلك جمهوراً ثابتاً. توقُّع تدني نسبة الاقتراع مردُّه مقاطعة شرائح عديدة من المجتمع العراقي الانتخابات.
لقد كانت الاحتجاجات من السمات الرئيسة للحراك الصدري-المدني منذ عام 2015، إلا أن الانتخابات الحالية في العراق هي بمثابة اختبار للواقع أكثر من كونها ميزة لصناعة نموذج ليبروإسلامي في البرلمان والحكومة العراقية القادمة. يناضلون سلمياً ويتقدمون ديمقراطياً نحو التغيّر للقضاء على إرث الفساد الثقيل. وفي ظل الانهيار الاقتصادي، وامتداد الاضطرابات السياسية إلى البيت السياسي الشيعي، والخلاف المرير الذي نشب بين قوائم التيار الصدري وقائمة دولة القانون، اضطرت الأطراف الإقليمية والدولية إلى أن تنظر إلى مأزق العراق باهتمام كبير.
ومن ثم، فإن مأزق البيت السياسي الشيعي قد وصل إلى درجة الافتراق بحسب البعض، لكن هل يمر دون ملاحظة.
وعلى المحك ما يشير إليه العديد من السياسيين العراقيين باعتباره مستقبل العراق كـ"دولة مدنية"، والتمسك بالدستور، وإجراء انتخابات برلمانية نزيهة وشفافة. وعلى الرغم من أن هناك رؤى متنوعة ومتصارعة حول مفهوم الدولة العراقية، أكد "ائتلاف النصر" وجود انقسامات عميقة بين الفصائل متنوعة المرجعيات الدينية والسياسية للحشد الشعبي. فبينما يؤيد السيد مقتدى الصدر إبعاد اسم "الحشد"، وكذلك ميثم الزيدي، قائد فصائل الحشد المرتبطة بالمرجع السيستاني في العراق- فإن القوائم الشيعيّة المتنافسة تنتظر تصريح المرجع الأعلى، الذي من المفترض أن يُقيد عبارة "المجرَّب لا يجرَّب"، ويُجمع قوائم البيت السياسي الشيعي على معارضتهم الشخصيات الفاسدة التي تحظى بتاريخ سيئ.
وسواء كان اللوم في المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للعراق يقع على عاتق حكومة 2010-2014 أم لا، فإن أياً من مرجعيات الشيعة لا يرغبون في أن يشهدوا العودة للوضع السابق. ومن جهة أخرى، فإن الافتقار إلى تحالف شيعي-شيعي كبير، ربما يُثبت أن تشكيل الحكومة القادمة لن يكون بأغلبية سياسية.
فمن دون تحالف شيعي كبير، سوف يفتقر نصاب تشكيل الحكومة القادمة إلى نوع التأثير السياسي الضروري لصناعة النصاب البرلماني. بالإضافة إلى أنه، وأخذاً في الاعتبار أنه لا يوجد أحد يعرف حقاً ماهية المعارضة البرلمانية القادمة فيما يتعلق بخيارات شخص رئيس الوزراء.
لقد شهدت الأيام الماضية ارتفاعاً ملحوظاً في أحداث الاغتيالات السياسية والجنائية والإرهابية، وضمن ذلك عملية استهدفت مدير مالية الحشد الشعبي قاسم الزبيدي. كما كان هناك العديد من حالات العنف والتخريب ضد الدعاية الانتخابية في جميع أنحاء العراق.
وهناك مزاعم بأن هذه الاغتيالات تمت بتدبير من مجاميع مسلحة تتبع القوائم الكبيرة، في محاولة للتأثير على وضع الناخب والمرشح في مناطق يُوصف فيها التنافس الشيعي-الشيعي بأنه حرج.
على أية حال، من الضروري أن يستمر الضغط الحكومي على أي من الأطراف التي تعمل لعرقلة هذه العملية، فهذا وقت حرج للغاية بالنسبة للعراق. في الانتخابات البرلمانية السابقة، ارتبط خطاب تنظيم القاعدة في العراق بترهيب مناطق العرب السنّة من المشاركة والترشح، وما تخلى قادة تنظيم داعش عن هذا الخطاب رغم هزيمتهم القاسية في العراق.
فقبل أسابيع حرَّض أبو الحسن المهاجر، الناطق الرسمي لتنظيم داعش، عناصر "داعش" على استهداف الانتخابات البرلمانية المقبلة، وعدم التفريق بين المرشحين أو الناخبين، قائلاً إن حُكمهم سواء، ويجب قتلهم دون استثناء، واستهداف جميع رجال الدين، السنّة والشيعة، الذين دعوا للمشاركة في الانتخابات، إضافة إلى استهداف رؤوس العشائر، ووسائل الإعلام.
كان ردُّ فعل الرأي العراقي متمثلاً في الشعور الطبيعي بإهمال هذه الثرثرة، نظراً إلى واقع الهزيمة العسكرية الكبرى التي أصابت "داعش".
وألقت خطبة "المهاجر" الضوء على المشكلة الحقيقية التي يعانيها "داعش"؛ وهي فقدانهم استجابة الحاضنة المنسجمة مع عقائدهم ومناهجهم في العراق والتي تعتبر أكثر مشكلات الفشل للدعاة والناشرين والخطباء في تنظيم داعش التي يواجهها إعلام "داعش".
وبالفعل، أصبح واضحاً قبل بدء انتخابات 2018، أن فكرة ترهيب الناخب والمرشح العراقي وتغيير إرادته ترجع إلى فشل خطباء وإعلام "داعش" في صناعة أكثرية منسجمة معهم، على الأقل في المناطق السنّية التي تُصنَّف على أنها محافظة ومتدينة.
ففي جنوب نينوى، بدلاً من أن تتشكل حاضنة وظيفية تجاه "داعش"، وفقاً لمعلومات خطيرة مبنيَّة على تقارير استخباراتية وحقائق، تم تشكيل حاضنة رافضة لهم ومنسجمة تماماً مع الحكومة في بغداد، وأصبحت تعمل وفقاً لفكرة تشخيص واجتثاث فلول وبقايا "داعش".
وبغض النظر عن كل المزايا الممكنة التي يُفترض أن يحققها النصر العسكري على "داعش" في نينوى وصلاح الدين والأنبار، بعدما تمت الإطاحة باحتلال "داعش"، وأصبحت تلك المحافظات نسبياً تتمتع بالعودة التدريجية ليومياتهم الطبيعيّة وتعمل بجدية على إعادة الإعمار وتمكين الاستقرار- فإن استخدام المجتمع المحلي كأداة من أدوات تعاون الاستخبارات في ظل ظروف مطاردة وملاحقة فلول "داعش"، يعبر عن روح المصالحة المجتمعية العراقيّة. الزرقاوي (2003-2006) في عام 2005، حث العراقيين السنّة، في تسجيل صوتي منسوب له، على التصدي لما وصفه بـ"الانتخابات الأميركية-الشيعية". وحث الزرقاوي في التسجيل، الذي أُذيع على موقع بشبكة الإنترنت، المسلمين السنّة على التصدي للانتخابات، التي قال إنها مؤامرة ضدهم من جانب الولايات المتحدة والشيعة.
قرابة70 % من أعداد الناخبين السنّة تفاعلوا مع هذا التهديد، وقاطعوا الانتخابات، والنتيجة تعمُّق شعورهم بالإحباط والمظلومية والتهميش والحنين إلى نظام البعث، وترتَّب على ذلك ضياع فرصتهم بالمشاركة الفاعلة في الملف الحكومي والتشريعي.
وقطعاً، هذا ما كان يريده الزرقاوي؛ استراتيجية صناعة حاضنة مُحبَطة من الحاكم وراغبة في التغيير المسلح، وترسيخ عداوة الآخر وخاصة الشيعة، فالزرقاوي وإخوانه يعلمون أنهم لا مأوى لهم في العراق دون تفعيل ملف الطائفية.
وفي عام 2010، توعد أبو عمر البغدادي، أمير تنظيم القاعدة في العراق (2006-2010)، بإفشال الانتخابات التشريعية بكل الوسائل، ومن ضمنها العسكرية. ووصف البغدادي الانتخابات، في تسجيل صوتي منسوب إليه، بأنها جريمة سياسية متكاملة، كما دعا إلى تشكيل لجنة من العلماء تعمل على توحيد ما سماها الفصائل الجهادية.
وقال أبو عمر البغدادي في التسجيل: "إن هذه الانتخابات حرام في شرع ربنا، وهي بعد ذلك انتحار سياسي وجريمة سياسية كاملة الأركان". وهاجم البغدادي جميع الرموز السياسية وغير السياسية والبرلمانية الشيعية والسنّية، ووصفهم بأنهم "أوثان منصوبة تحت قبة تخضع لقانون أو دستور ظالم جائر يناقض الشريعة الإسلامية ويحاربها في كثير من أصول ديننا الحنيف".
في انتخابات 2010، لم يهتم الناخب السنّي لتلك التهديدات وشارك بقوة في اختيار القائمة العراقية التي فازت، ويبدو أن الحافز على هذه المشاركة الواسعة كان لسببين؛ مراجعتهم الخطأ الكبير الذي ارتكبوه بعدم المشاركة عام 2005، وأيضاً هزيمة القاعدة على أيدي أبنائهم من الصحوات العشائرية والمناطقية. ويبدو لي أن انتخابات 2018 سوف تشبه انتخابات 2010 بالنسبة لعدم اكتراث العرب السنّة بتهديدات الناطق الرسمي لتنظيم داعش.
إن الهجمات الإرهابية التي وقعت في جنوب الحويجة وجنوب القيارة وفي أيسر الشرقاط قد تم تحليلها فيما يتعلق بتأثير هذه الأحداث على رؤية العرب السنّة حول انتخابات 2018. وكانت نتيجة هذه الأحداث إعطاء الزخم الكبير لناخبي تلك المناطق بضرورة المشاركة.. وعمدت قيادة الحشد العشائري والمناطقي في تلك المناطق إلى إزالة الآثار التي خلّفتها العمليات الإرهابية، وتحويلها إلى مصدر قوة.
وتشير الخطابات الخاصة بالانتخابات، المنشورة على شبكة الإنترنت، لقادة الجماعات الإرهابية في العراق، إلى أن ثمة بُعداً استراتيجياً يكمن وراء الترهيب المتكرر للناخب السنّي حول إرادة المشاركة في الانتخابات.
وفي حين أن الانقسام والتشتت بين قوائم أحزاب العرب السنّة أمر مزمن وارد في جميع الانتخابات السابقة، فإن الجدل الدائر حالياً حوله بضرورة مشاركة واسعة للناخب السنّي في المحافظات والمدن المنكوبة والمحررة حديثاً من احتلال تنظيم داعش- يتسم بدرجة من الخصوصية؛ نظراً إلى الكيفية التي أثَّرت بها أحداث 10 يونيو/حزيران 2014 على الهوية السياسية للعرب السنّة على جميع الأصعدة؛ الوطنية والقومية والدولية.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.