عن أسبابي التي تمنعني من التبرع لمستشفى سرطان الأطفال في مصر 57357

عدد القراءات
16,927
عربي بوست
تم النشر: 2018/05/09 الساعة 10:56 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2018/11/14 الساعة 07:04 بتوقيت غرينتش

قبل شهور قليلة، وتحديداً في ذروة فصل الشتاء، قابلتنا المشكلة السنوية لمنطقة حوض نهر الرور هنا في ألمانيا، والتي تتمثل في ازدحام المستشفيات وكونها (كاملة العدد).

حين جلسنا للاجتماع الأسبوعي طرحنا سؤالاً محدداً يقابلنا نحن الأطباء المقيمين: ماذا لو أحضر لنا الإسعاف مريضاً لا نستطيع حجزه بسبب عجز الأَسِرَّة؟ أو كان مريضاً من تخصص مختلف عن مركزنا ولا بد من تحويله لمشفًى آخر؟ أليس من الأفضل في هذه الحالة أن تكمل سيارة الإسعاف طريقها إلى مشفًى مناسب؟

تفرع النقاش يومها حتى طلبنا استشارة قانونية وهي التي استطاعت في رأيي حسم النقاش بصورة نهائية.

المستشار القانوني قال إن آراءنا ينبغي ألا تغفل (الهدف الذي وضع لأجله القانون) وهو في هذه الحالة إنقاذ المريض ومساعدته لينال العلاج بكل وسيلة ممكنة.

هذا الهدف -كما كتب هو في رده التفصيلي- هو المقصود الأعلى لكل وسائل الخدمة الصحية. وبناءً عليه أشار الرجل علينا بالتالي:

– إذا رأى المسعفون أن المريض الذي ينقلونه في حالة خطرة فإنهم يتوجهون إلى أقرب مستشفى ممكن، وهي التي تتولى الإسعاف الأولي ومعالجة الخطر الصحي الموجود ثم يجري نقل المريض بمعرفتهم إلى المستشفى المتخصص. ولا يجوز لمقدم الخدمة الصحية الامتناع بحجة عدم التخصص.

– إذا كانت معظم المستشفيات كاملة العدد، فإنها تعتبر جميعاً لسيارات الإسعاف مفتوحة، بمعنى أن الإسعاف يطرق باب المشفى الذي يريده والمستشفى يلتزم باستقبال الحالة وتقديم الخدمة الأولية ثم نقل الحالة إلى مشفى آخر.

ثم أردف الرجل تعليلاً قانونياً استقاه من (الهدف الذي وُضِعَ لأجله القانون)، أن المريض داخل المشفى وإن كان في تخصص مغاير، إلا أنه آمن وسط خدمات طبية وتمريضية بصورة أكبر بكثير من سيارة إسعاف متحركة.

كما أن الأهل يمكنهم في هذه الحالة أن يتابعوا حالة المريض في المشفى بدلاً من تتبع سيارة الإسعاف.

أصدقكم القول، ضايقنا الأمر كثيراً خاصة أننا نعمل في مشفى متخصص لأمراض الصدر، لكنني سعدتُ لأهل هذه البلدة أن كان رعاتهم بهذا الحرص على حياتهم وهذا الفهم الصحيح والتخطيط السليم.

على جانب آخر من العالم وفي دولة نامية يحتاج أهلها وغالبيتهم من محدودي الدخل والطبقات البسيطة إلى كل مساعدة ممكنة، فإن مشروع 57357 يستنزف مذ ظهر تبرعات هذه الطبقات، تارة بالإجبار وتارة بالاختيار وحين يذهب طفل مريض بالسرطان يستنجد بالسادة المعالجين، تصدر الأوامر من سفهاء القوم هناك: "إحنا عايزين حالة ماتضربش فيها مفك".

نعم عزيزي القارئ هذه العبارة العامية السوقية المستخفة بالحياة هي دستور الـSelection Criteria  في هذا المركز العلاجي الضخم!

وهي تعني لمن لم يفهمها، أن أي طفل تم علاجه أو البدء في علاجه أو حتى البدء في تشخيصه -وهو ما يتم غالباً عبر عينات تؤخذ من الجسد- فإنه لا يمكن حجزه في هذا المشفى حتى وإن توافرت الأسرة له!

يعلل العاملون في 57357 هذا الأمر -وهم بالمناسبة لا يخفونه- بأنهم يحاولون وسط كثرة أعداد المرضى أن يختاروا الحالات التي يمكن مساعدتها بدلاً من الحالات الميؤوس من شفائها!

هكذا بكل وقاحة يكذب هؤلاء في أمرين:

– الأمر الأول أننا جميعاً نعلم أن هذا فقط متعلق بنسب الشفاء ومعدلات الوفاة، ولذلك فإن السادة يختارون الحالات التي يمكن علاجها ومن ثم تقديم صورة إحصائية جيدة عن كفاءة المركز! وهي صورة مخادعة بكل تأكيد.

– الأمر الثاني، أن المراكز العلاجية المتخصصة (Tertiary centres) هي الأماكن التي ينبغي أن تلجأ لها الحالات المعقدة والتي تحتاج إلى كفاءات عالية ومتخصصة وذات خبرة كبيرة، سواء كانت هذه الحالات تم تشخيصها أو البدء في علاجها.

ولا يجوز أبداً أن يكون التشخيص أو البدء في العلاج مانعاً من استكمال العلاج في 57357. وهذا قانون مفهوم بالضرورة لكل المشتغلين بالطب في العالم.

الأمر الأكثر إثارةً في رأيي، لماذا يمكن لمركز علاجي يقدم نفسه بأنه الأكبر والأضخم والأقوى والأكثر تحديثاً في الشرق الأوسط بأن تكون طاقته الاستيعابية فقط 220 سرير؟! هذا العدد الضئيل بهذه الميزانية الضخمة!

التعليل يكمن في أن المشروع للأسف تم إعداده منذ يومه الأول ليكون صرحاً إعلامياً يتباهى به علية القوم وليس مركزاً علاجياً يراعي مصممه واقعية ظروف الشعب المصري ومحدودي الدخل.

ساعد على هذا تبني سوزان مبارك للمشروع، وبالطبع فإن (السيدة الأولى) كانت ترغب في مشروع مبهر تتفاخر به بغض النظر عن الجدوى الحقيقية.

يمكنك ملاحظة هذا إذا نظرت إلى تصميم المشفى الذي يهدر مساحات كبيرة كان يمكن استغلالها في زيادة عدد الأسرة. كذلك فإن الإصرار على خدمات فندقية مبهرة واستنزاف نفقات المشفى من التبرعات في شراء أجهزة تجريبية باهظة الثمن دون الحاجة الماسة إليها، كان سفهاً ينبغي مواجهته بدلاً من ترك الأطفال يموتون بالسرطان على عتبات المستشفيات.

إننا نقابل هاهنا ملمحاً نادراً من الإجرام الذي يُعَرِّض المسؤولين عنه -في أي دولة قانون- للمحاكمات بتهمة إهدار الأموال العامة.

وحين نسمع من عاملين داخل المشفى ومن مراقبين مطلعين خارجه عن إهدار الأموال لصالح الإعلانات وحملات التبرعات وغيرها من هذه الأشياء، فإن هذه الفرضية تتعزز مع تضافر دلائلها وقرائنها القوية.

لهذه الأسباب فإنني أدعو المتبرعين أن يوجهوا أموالهم إلى جهات أكثر احتياجا وأكثر فاعلية، جهات علاجية لا تستطيع أن تقوم بحملات إعلانية مليونية ولا تجتذب علية القوم ومبرزيهم ومشاهيرهم. رغم هذا يعملون في صمت وفي ظروف صعبة ليخففوا عن الأطفال المصابين بالسرطان.

كل أقسام الأطفال في مستشفيات مصر، أخص منها مستشفيات العاصمة الكبرى مثل أبوالريش، والدمرداش الجامعي والحسين وسيد جلال والزهراء وأحمد ماهر وغيرها من الصروح الكبرى التي تعمل ليل نهار بعيداً عن (المظاهر الكاذبة) التي يرعاها مجرمون وفسدة يرتدون البالطو الأبيض في 57357.

كذلك فإن الأقاليم ابتداءً من الإسكندرية وحتى أسوان تضج بمشافٍ تحتاج التبرعات والدعم ليس فقط في رمضان ومواسم التبرعات ولكن كذلك طيلة العام.

ودعوني أردد لكم الجملة التي لن تسمعوها أبداً في الإعلام المصري: لا تتبرعوا لمستشفى 57357.

مدونات الجزيرة

مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
دسوقي أحمد
طبيب مصري مقيم بألمانيا
تحميل المزيد