تستطيع الحكومة المصرية أن تسترد جزءاً من شعبيتها المفقودة والمتآكلة يوماً بعد يوم بفعل الأزمات السياسية والاقتصادية إذا ما استطاعت أن تقول لصندوق النقد الدولي: كفى إملاءات وشروطاً وضغوطاً وغطرسة.
وتستطيع هذه الحكومة أن تحصل على ثقة قطاع من المصريين إذا أقدمت على قرار بحجم طرد بعثة صندوق النقد التي بدأت يوم الأربعاء زيارة إلى القاهرة تستمر حتى يوم 17 مايو/أيار الجاري وجاءت للبلاد بهدف فرض مزيد من الإملاءات وإدخال مصر وشعبها في موجة عنيفة من ارتفاعات الأسعار، وزيادات الضرائب وبيع أصول الدولة وشركات القطاع العام وأكبر البنوك، ومنها بنك بحجم بنك القاهرة ثالث أكبر مصرف في البلاد.
وتستطيع الحكومة كذلك أن تقول بالفم العالي، وأمام الجميع وبلا خوف: "لن نطبّق إملاءات صندوق النقد الدولي بعد اليوم، ولن نخضع لشروطه التعسفية بعد تلك اللحظة، وليذهب الصندوق وروشتته وتوصياته وخبراؤه وقروضه إلى الجحيم، ولتعد بعثة الصندوق ومندوبها المقيم في القاهرة إلى واشنطن حيث مقر الصندوق الشاهق".
وتستطيع الحكومة أن تقدم وعوداً حقيقية بخفض الأسعار وتوفير السلع بسعر يناسب الغالبية العظمى من المصريين، وأن تتوقف عن إطلاق الوعود الخادعة التي تطلقها من وقت لآخر لتنويم الناس بعض الوقت، وبذلك تتراجع الحكومة عن الوعود التي قطعتها على نفسها للصندوق بإجراء زيادات جديدة في أسعار السلع والمواصلات العامة، بدءاً من شهر يوليو/تموز القادم.
الحكومة المصرية يمكن أن تتخذ موقفا تاريخياً، وتعترف بخطأ الاقتراض من صندوق النقد الدولي، وتقر بجريمة تطبيق برنامج الصندوق الجهنمي الذي لم يفض إلا إلى الخراب الاقتصادي، وتفاقم عجز الموازنة العامة، وزيادة الاقتراض الخارجي والمحلي، وأن تعترف أن وصفة الصندوق أغرقت الاقتصاد في مشاكل لا حدود لها، وأغرقت معها المواطن في بحر من ظلمات الفقر والعوز والبطالة والاكتئاب بسبب السياسات الفاشلة وتطبيق سياسة أفشل للصندوق.
يمكن للحكومة أن تخرج على الناس لتصارحهم بالحقيقة الكاملة، حقيقة أن إملاءات الصندوق كانت وراء انهيار قيمة الجنيه مقابل الدولار وفقدانه أكثر من 50% من قيمته في لحظة سوداء من تاريخ مصر، جرت يوم 3 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، حينما تم تحرير سوق الصرف بلا قيود ولا ضوابط ولا استعداد، ومع الانهيار تآكلت مدخرات المصريين بالعملة المحلية، وضاعت تحويشة العمر وسط غول التضخم الذي لم يرحم فقيراً ولا حتى منتمياً للطبقة المتوسطة.
على الحكومة أن تصارح المصريين بأن توصيات الصندوق المشؤومة كانت وراء قذف الملايين منهم في دائرة البطالة الجهنمية، كما قذفت معها ملايين المهندسين والأطباء والمحامين والمدرسين وغيرهم من أبناء الطبقة المتوسطة في دائرة العوز المالي، وهي الطبقة التي ظلت مستورة طوال نصف قرن.
على الحكومة أن تصارح المصريين بأن "المتغطي بالصندوق عريان"، وأن الصندوق لم يصنع تنمية حقيقية في الدول التي تحالف مع حكوماتها، وأن الصندوق لم ينصح دولة مقترضة بضرورة الاهتمام مثلاً بقطاع الصناعة أو بقطاع إنتاجي حقيقي، ولم يضغط على الحكومات لترشيد نفقاتها ومكافحة الجريمة الاقتصادية من احتكار وفساد وتفريط في المال العام وتهرب ضريبي، فوصفاته تصب تجاه شيء واحد هو زيادة الأسعار، وفرض مزيد من الضرائب وقهر المواطن معيشياً ونفسياً، والقضاء على الطبقة الوسطى الحصن القوي في أي مجتمع.
المصريون تحملوا ما لم يتحمله بشر على مدى قرن كامل بسبب ستة مليارات دولار حصلت عليها حكومتهم من صندوق النقد عبر ثلاث شرائح، وفي الفترة من نوفمبر/تشرين الثاني 2016 وحتى فبراير/شباط 2018، فقد اكتووا بنيران الأسعار التي باتت تفوق قدرتهم الشرائية، واكتووا بنار فواتير الكهرباء والمياه والبنزين والسولار وغاز المنازل والرسوم الحكومية، واكتووا كذلك بنيران ضرائب طاولت حتى الطبقات الفقيرة والباعة الجائلين في الشوارع والحارات وعلى النواصي، كما اكتووا كذلك بأسعار أدوية مرتفعة وتكلفة علاج لا تستطيع الغالبية العظمى تحملها.
وإذا كان صندوق النقد قد فعل كل ما فعل بالمصريين بقرض قيمته 6 مليارات دولار خلال العام ونصف العام الماضيين، فماذا سيكون عليه الحال خلال فترة منحه الستة مليارات الأخرى خلال العام ونصف العام القادمين؟ إذ وعد الحكومة بمنحها 12 مليار دولار على 3 سنوات.
صندوق النقد الدولي يغرق مصر في الديون، وشبابها في البطالة واليأس من الغد، ويقذف بأجيالها القادمة في المجهول، فهل تفعلها الحكومة وتقول: كفى للصندوق، كفى لسياسته التخريبية، كفى لبرنامجه الفاشل ووصفاته التي ثبت فشلها في العديد من دول العالم، وآخرها اليونان؟
إن تنشيط قطاع اقتصادي واحد، هو قطاع السياحة، يمكن أن يجلب للبلاد إيرادات سنوية تفوق قيمة القرض الذي ستحصل عليه الحكومة من صندوق النقد الدولي، كما أن تنشيط قطاع الصادرات يمكن أن يجلب للبلاد إيرادات تفوق 3 أضعاف قيمة قرض الصندوق، كما يوفر فرص عمل لملايين الشباب، ويدعم قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار، كما أن مكافحة التهرب الضريبي تدر على الموازنة العامة إيرادات تبلغ 250 مليار جنيه، وبما يزيد على 14 مليار دولار سنوياً، وهو مبلغ يزيد على قرض الصندوق.
هذه أمثلة لبعض القطاعات الاقتصادية التي يمكن تنشيطها، والاستغناء من خلالها عن قرض الصندوق وبرامجه التخريبية، فهل تفعلها الحكومة وتهتم بهذه القطاعات وتتخلى عن الحلول السهلة في إدارة الاقتصاد؟ وأعني بالحلول السهلة الحصول على قروض سريعة من صندوق النقد والبنك الدوليين وأمثالهما في الشرق والغرب.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.