كانت جنوب إفريقيا أبهى ممَّا تصورت. تجنَّبت البحث عن صورها لكي لا أحمل أي نوعٍ من التوقعات قبل الوصول. تسارعت ضربات قلبي مع الإثارة والعصبية التي شعرتُ بها؛ فقد كنت سأقابل أخيراً شريكة خيمتي والمجموعة التي سأسافر معها للأربعين يوماً المقبلة.
وصلت إلى الفندق في وقتٍ مبكرٍ، وأوَّل ما كان عليّ القلق بشأنه هو أقراص الملاريا خاصَّتي؛ ففي خضم التطعيمات التي كان عليَّ إجراؤها، والترتيبات التي كان عليَّ إنجازها، اشتريت تلك الأقراص التي تُصيب مستخدمها بالكوابيس والقلق. لم أكُن على استعداد لتحمُّل ذلك لمدة أربعين يوماً؛ لذا، وبمجرَّد أن قيَّدت اسمي في الفندق، جعلت جميع موظفيه يركضون معي في كل مكانٍ للعثور على أقراص الملاريا الصحيحة.
بعد إنزال حقائبي تطلَّعت حولي في صالة الاستقبال، في محاولة لتحديد أي مظهرٍ سيبدو عليه زملائي الرحَّالة: "الشعر متسخ، والثياب ممزقة، ويبدون كما لو لم يستحموا منذ أيام" ربما!
سألت موظف الفندق إذا كانت الفتاة الجالسة على الأريكة تنتمي إلى نفس مجموعتي؛ فرمقني بنظرةٍ مُحبطةٍ وأجاب: "أجل؛ إنها تجلس هنا منذ العاشرة صباحاً تستخدم الإنترنت، ماذا جرى لهذا الجيل الجديد؟! ضحكت محرجة وذهبت إليها بكل ثقةٍ -أو هكذا تخيلت- قائلةً: "مرحباً، أنتِ من جولة g للمغامرات؟".
أدركتُ على الفور أنَّها من أستراليا بسبب لهجتها، وبعد أن تجاذبنا أطراف الحديث لفترة من الوقت دعتني إلى الانضمام لها ولصديقتها لرؤية جبل الطاولة (Table Mountain). أحضرت زجاجة من الماء، وكل ما عندي من معدات التصوير، والشوكولاتة أيضاً (كما لو أنَّ هذا مهم جدّاً)، ولكني كنت مفعمةً بطاقةٍ غريبةٍ يبدو أنَّ مصدرها أنّي لم أنم منذ يومين.
كانت "جو"، وهي الفتاة الأخرى التي التقيتها، قد عادت لتوّها من الغوص مع أسماك القرش. بَدَت قصتها جنونية، ولكن "جو" كانت بالضبط هذا النوع من الفتيات، النوع الذي يسعى إلى المغامرة أينما استطاع. كانت قد سافرت إلى أكثر من خمسين بلداً؛ أمَّا "ليندسي" (الفتاة الأسترالية) على النقيض تماماً؛ فقد كانت انطوائية تعشق الهدوء، وتتمتَّع بما يُحيط بها من مناظر وبمساحتها الشخصية.
يبلغ ارتفاع "جبل الطاولة" 1085 متراً، وكان طابور الانتظار يبدو بالطول نفسه تقريباً. استغرق الأمر منَّا وقتاً طويلاً في الانتظار، إلى درجة أنَّنا حين وصلنا إلى أعلى نقطة في الجبل لم نقضِ سوى خمس دقائق معاً، قبل أن نضطر إلى العودة إلى أسفل مرةً أخرى؛ لحضور الاجتماع التعريفي بمجموعتنا.
فجأة أضاءت في عقلي خاطرة وأنا أعلى الجبل: أنا هنا فعلاً! أنا أسافر أخيراً، بعيداً عن كل شيء، وأنا وحدي، بلا عائلة أو أصدقاء أعتمد عليهم. لم أكُن أتخيَّل حينها أي قُربٍ يُمكن أن يجمعك بمجموعة من الناس لم تتعرَّف عليهم سوى لأيامٍ قليلة..
بعد النزول إلى سفح الجبل تسارعت دقات قلبي؛ فسأقابل بقية المجموعة في غضون دقائق. وبمجرَّد وصولي إلى الفندق التقيتُ شريكة خيمتي، وهي فتاة كندية تبلغ من العمر ثمانية عشر عاماً. كان أوَّل رد فعلٍ لي هو أنّي سأتقاسم خيمةً مع فتاةٍ في عمر أخي الأصغر، ولكني أدركت فجأةً زلَّتي الأولى: الحُكم على شخصٍ دون أن أعرفه جيداً. لا يهم السفر، والعمر، والمظهر؛ فنحن جميعاً هنا لسببٍ ما، وهذا هو ما يجعلنا نريد السفر وتجربة أشياء جديدة، وهذا هو أساس صداقتنا.
عندما انتهينا من الاجتماع التعريفي.. لاحظتُ أنَّني الوحيدة التي كنت أرتدي الحجاب في المجموعة، وتمنيتُ لو لم يُصدر أحدٌ أحكاماً عليَّ بسبب مظهري. طُلب منَّا أن نُعرِّف أنفسنا؛ فلم أقُل إلَّا الحقيقة: إنني هنا لمشاهدة الحياة البرية والتقاط بعض الصور الفوتوغرافية. لم تكُن الحياة البرية على رأس قائمتي حينها، ولكنها ربَّما ستكون في نهاية هذه الرحلة.
تمكنت أولاً من مسح الغرفة بزاوية عيني عندما جلست، وبعد ذلك ركَّزت نظري على الجميع وهم يُعرِّفون أنفسهم. كنا كلنا في أعمار مختلفة تتراوح من ثمانية عشر إلى خمسة وثلاثين عاماً، في رحلةٍ يقوم بها المرء مرةً في العمر. كان هناك بين المجموعة أزواج تركوا وظائفهم لأجل السفر، وأزواج كانوا على سفرٍ في الأشهر القليلة الماضية، وكان هناك أصدقاء تقابلوا في رحلاتٍ سابقةٍ، وآخرون في بداية المغامرة.
كنَّا أربع عشرة فتاة وسبعة أولاد؛ من جنسيات متنوعة: بيننا الألمان، والأستراليون، والنمساويون، والسويسريون، والبريطانيون، والكنديون، والأميركيون، والدانماركيون، وبعد ذلك كان هناك أنا: المصرية البريطانية الوحيدة في المجموعة. فكَّرتُ حينها: "أين الآسيويون؟ لم أكن أتوقع وجود عرب في المجموعة، ولكن الآسيويين أين ذهبوا؟ لمحتُ فتاة بَدَت غريبةً لدرجة أنَّني فكرت على الفور أنّي سأتوافق معها جيداً.
كانت "كولين"، مرشدتنا السياحية، من جنوب إفريقيا، "ولوزيندا" سائقة شاحنتنا من ناميبيا. ولهجتاهما متشابهتان جدّاً؛ فاستمتعت بالاستماع إليهما. لديهما طريقة متشابهةٌ جدّاً أيضاً في ارتداء الملابس: بنطال قصير وتي شيرت، وتقفان وتتحدثان بطريقةٍ واثقةٍ جدّاً ورجولية قليلاً. أشعر بالفخر، ولا أشعر بالقلق بتاتاً من أن امرأتين سوف تقوداننا عبر إفريقيا لمدة أربعين يوماً. لكن شعرت بالقلق من أنَّ المجموعة ستنقسم إلى مجموعات أصغر.
كان الاجتماع التعريفي طويلاً يضع العديد من القواعد. لا يُمكن التسامح مع أي شكل من أشكال التمييز. وكانت هذه هي القاعدة التي طمأنت قلبي.
في اليوم التالي استيقظنا في السادسة صباحاً؛ وكان سير يومنا كالتالي: إنزال الخيام، ووضع حقائب الظهر في الشاحنة، وتناول الإفطار، ثم حزم الأمتعة والانطلاق إلى الطريق مرةً أخرى.
"أغسطس"، هو اسم شاحنتنا. كنت أتخيل أنَّها ستكون أصغر من ذلك بكثير -ربما نصف حجمها- فلم أكُن أتصور أنها ستحتوي على كل هذا العدد من المقصورات: مقصورة للأمتعة، وأخرى للخيام، والبقية لأواني المطبخ والطعام.
غادرنا الفندق في السابعة صباحاً.. وخرجنا من كيب تاون في غضون ساعة. توجهنا إلى مرتفعات Highlanders Vineyard، التي يديرها رجل طيب يُدعى "سباركي"، وزوجته، وابناهما. كان المشهد لا يصدق في طريق رحلتنا، أميال وأميال من المناظر الطبيعية النقية التي بَدَت وكأنَّها ستستمر إلى ما لا نهاية..
تعلَّمنا للمرة الأولى كيفية إعداد الخيام، ولن أخبركم كيف أنَّها ثقيلة حقًّا! استغرق الأمر وقتاً طويلاً والكثير من الممارسة لإنجاز تلك المهمة. والحمد لله أننا كنا نخيم على العشب وليس على الرمال.
كنت الوحيدة التي تتجوَّل بحذاء المشي لمسافات طويلة في الحر. لا أحب المشي حافية القدمين على العشب، ولكن كان بإمكاني، على الأقل، أن أرتدي حذاءً خفيفاً يشعرني ببرودة وراحة أكثر. بعد الغداء قرَّر عدد قليل منا أن يذهب في نزهة على الأقدام. كان الوقت في منتصف النهار والطقس شديد الحرارة، ولم أدرِ ذلك إلا بعد أن خرجت في النزهة! ويؤسفني هذا القرار؛ إذ كنت أوَّل شخصٍ يمرض في اليوم الأول من الرحلة. ليست بداية جيدة!
وكان الشيء الوحيد الذي أدهشني هو أماكن الاستحمام؛ فقد كانت بديعة! كانت بالأساس حفرةً على شكل مربَّع، كما لو كانت نافذة بلا زجاج. ونتيجة لذلك، ستشاهد عرضاً أكثر من مدهش بصورةٍ واضحةٍ تماماً للجبال والمناظر الطبيعية بمجرَّد أن يبدأ هطول الماء. كان مشهداً لا يصدق. حتَّى أنني وقفت تحت الماء مرتين فقط لأشعر بأني في حالٍ أفضل وأتمتَّع بهذا المنظر. قيل لنا إنَّ هذه ستكون ربَّما أفضل أماكن استحمام سنراها طوال الرحلة. أفتقدها بالفعل من الآن!
أعدت "كولين" و"لولو" لنا في هذه الليلة ناراً تُدفئنا؛ لأنَّ درجة الحرارة كانت قد انخفضت كثيراً، وأعطتنا كلتاهما بعض المعلومات عمَّا سيحدث في اليوم المقبل. كان يومنا يبدأ في الخامسة صباحاً! وبعد العشاء تحلَّقنا حول النار وتناولنا "المارشملو" ، تلك الحلوى التقليدية، وجاء الوقت ليقول كل واحد منا شيئاً طريفاً عن نفسه، وفي الأثناء يجري تعارف بسيط.
شعرت بالذُعر حين فكَّرت فيما يمكن أن أقول عن نفسي. الجميع لديهم قصص مضحكة وشخصية للغاية، ففزعت قليلاً حين جاء دوري ثم قلت: "مرحباً، اسمي مريم. أكره التخييم. أكره الحر، وأكره الحشرات، وأصدقكم القول إني أشعر بالرعب من الحيوانات، ولكن ها أنا في إفريقيا لمدة أربعين يوماً".
شعرت بالخجل قليلاً لكني سمعت بعضهم ينطلقون في الضحك، وهي علامةٌ جيدةً حتماً. وصدقاً، ما قلته يُعبِّر عني بشدة.
قبل النوم نظرت إلى السماء وأدركت أنَّ هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها هذا العدد الكبير من النجوم. ما كل هذا الجمال الذي كنت غافلةً عنه؟ ذهبت إلى النوم في خيمتي، وقد دخلت فيما يعرف بحقيبة النوم الخاصة (Sleep bag) بي التي من المفترض أن تبقيني دافئةً في درجة حرارة صفر، ويُمكنني القول الآن إنها لم تكن لتبقيني دافئةً حتى ولو كانت درجة الحرارة عشرة مئوية. وأنا أفعل ذلك.. أدركت أنَّ هذه كانت بداية مغامرتي رسمياً، وأنَّ اليوم الأول قد انتهى بالفعل. وها أنذا لا أطيق الانتظار لأرى ما تحمله لي الأيام المقبلة.
يُتبع..
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.