يَحصُل في العائلات البسيطة والمتوسّطة الحال أن يكون للفتاة فيها حُلم جميل بأن تُكمل تعليمها لتقدم لأهلها ولنفسها شيئاً من الفخر الرائع والمتاح "مجاناً"، فيكفي أن تحقق درجة تُخول لها الالتحاق بإحدى الكُليات.
مع الوقت يتبيّن لعائلتها ولها أن هذا الطموح ليس زهيداً إطلاقاً، بل هو باهظ الثمن.
هي التي أرادت أن تجرّب مدارج الجامعة لِتجد نفسها في السكن الجامعي فجأة، وفجأة أيضاً أصبحت تحمل عاراً لم تحسب له حساباً، عار سكنها في المبيتات الجامعية.
أدركت ذلك عندما رفضت عائلة جيرانهم خطبتها لابنهم؛ لأنها "بنت فوايا foyer" فغضب والداها وفرحت هي فرحاً شديداً، إذ سيتسنى لها أن تكمل مشوارها الجامعي دون أن يتقدم لها أحد ممن لا يؤمنون بوجعها وسعيها المضني.
ذهبت الفتاة لتجد نفسها واقفة وراء الباب الحديدي الأسود الكبير للسكن حيث لا تنتظر أحداً، أهلها في مدينة أخرى وليس لها أحد هناك غير صديقتها التي أغلق الحارس ذلك الباب في وجهها ونَهرها وهددّها في حال دخولها للمبيت، وسارع للوشاية بها للمديرة؛ لأنّها من كلية أخرى ولا يحق لها الدخول وإنّه لجُرم عظيم.
تريد أغلب الفتيات أن تصنع عالمهن في جزء ذي ربع متر "تختاره" لنفسها في غرفة تشاركها فيها النوم والأكل والدراسة أربع فتيات أخريات من أعمار وجهات واختصاصات جامعيّة مختلفة.
وخلال بنائها لذلك العالم وعند استيقاظها بعد ليلتها الأولى هناك، تُشغّل "شايف البحر شو كبير"، وتُحضّر ابتسامتها مع عُدّة قهوتها، ثمّ تخرج بحثاً عن الراحة في مكان يشبه الغرفة الصغيرة يوجد منه اثنان في كل طابق، وتحتوي هذه الغرفة على مرحاضين وحوضين.
تبيّن لها أنّ سكنها في الطابق الأول ليس رائعاً أبداً، كما قالت الأخريات، فالحارس يشارك التسع فتيات المرحاض، وهو ما اضطرها للصعود طابقين آخرين كلما أرادت أن تقضي حاجتها أو أرادت الوضوء وكان ذلك مرعباً حقاً في ليالي الشتاء والدرج المعتم المظلم!
أما الحوضان، فشبه مُعطبيْن بشكل يجعلهما ممتلئين دائماً بمياه غسيل الأواني وبقايا الأكل المتخمّرة.
وفي خضم هذا القرف، تكتشف أنّ العدس كما الحمّص والفول سرعان ما يتحول لنباتات صغيرة في هذه الأحواض التي تستقبل بها الصباح لتغسل وجهها ويديها، وهي تحبس أنفاسها؛ كي لا يصيبها الغثيان.
أما عن تحدّي المطعم الجامعي -وهو "رفاهية" غير متوفرة بمبيتها- فهي تُرتّب للذهاب إليه مع غيرها من البنات كالسفر أو كالرحلة، وتستقل لأجل ذلك المترو الخفيف، وتُكمل بعض الأمتار مترجلة.
ومع الأسف كثيراً ما تضيع منها فرصة الحصول على طبق من كربونات الصوديوم وقليل من الأكل وكثير من الانتفاخ.
حتى وإن حصلت عليه فكثيراً ما تتركه كما هو عندما يظهر لها القطّ السمين الأعور الذي يتجول بين أرجل الطلبة وحال عينه المتورمة والذباب حولها تثير الشفقة وتقتل شهيّة من يراها إلا أصحاب القلوب القويّة والجيوب الفارغة، فلا خيار لهم سوى ابتلاع ذلك الطبق؛ إذ لا يقدرون حتى على إهدار "المنحة" المحتشمة في البيض والعجّة!
فهي مثلاً سلّمت رئتيها لجدران غرفتها السوداء بفعل الرطوبة، ونالت نصيباً من الالتهابات ووجع الكلى بسبب المراحيض، ووهبها الشباك شيئاً لا بأس به من الحمّى والصداع بسبب تسرّب مياه الأمطار والبرد في الشتاء.
هي لم تعد "فتاة" فقد قدمت شكلها ووزنها المثالي وآثرت الانتفاخ بأكل المطعم الجامعي وأن تحظى بكمّ جيّدٍ من البثور على وجهها حتى تتسلّم شهادة تخرجها وتُضيف لشرف عائلتها شرفاً جديداً بنجاحها.
هي فعلاً من بنات المبيت الجامعيّ؛ حيث تُهدر إنسانيتهن دون شفقة ولا اكتراث حتّى!
في السّكن الجامعيّ؛ حيث تأكل المعاناة أجسادهنّ وتترهل وجوههنّ باكراً.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.