تمنيت أن أكتب مقالي الأول عن العرّاب وهو على قيد الحياة، كان في أحلامي دائماً أن أكتب عن كل رواية قرأتها له، ثم أكتب كل رواية حلمت بكتابتها وهي تخرج من شجرة كلماته وأفكاره هو، كنت أنتظر أن أراه يحصل على التكريم الذي يستحق في حياته وأن يكون شخصية العام في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وأن أرى روايته الرائعة "يوتيوبيا" وغيرها تدرّس فى الجامعات؛ لأنها عمل من أعظم الأعمال التي كتبها الرجل وكأنه يتنبأ بما يحدث لنا الآن تفصيلياً.
لكن، يبدو أنه على الكاتب أن يغيِّبه الرحيل حتى تشتعل الروح في كلماته وكُتبه وتاريخه. رحل والدي عن الحياة عندما بدأ العراب في الكتابة لـ"المؤسسة العربية"، كانت كُتبه النجوم التي أعلّقها في سقف غرفتي وتضيء لي العالم في وقت العزلة والوحدة، كان الأبَ الذي محا اليُتم بكلماته، حاولت التواصل معه في أكثر من مناسبة، ربما نجحت وربما لم أنجح، أردت أن أخبره بأنني أكتب لأنه علَّمني، كان أكبر ما يؤلمني أنني رأيت تحلُّق الكُتاب الصغار حوله ونفوري من ذلك المشهد الذي بدأ يصبح سمجاً ومتغولاً، يعتمدون فيه على لطفه وإيمانه بالشباب، يقول في الفيلم الوثائقي الذي سجلتْه "الجزيرة" معه إنهم صغاره ويوماً ما سيحلِّقون تاركين العش، لن أعرف أبداً كم من التجارب السيئة قد اعترضته حتى كتب أحدهم يوماً على لسانه أن أحد الكُتاب الصغار قد أخذ رأياً قاله له في أحد المنتديات ونشره على كتابه ليحقق مبيعات!
لقد شعر الرجل بالاستغلال فعلاً في حياته من فئة منهم، كان هؤلاء يريدون قطعة منه يصعدون بها على أكتافه، هذا العالم المتوحش فعلاً لا يليق بالرجل الذي كتب ليمتعنا وكتب ليعلِّمنا، لم يبخل بحَرف من تجربته حتى كتب كتاب "اللغز وراء السطور"، الذى دشن فيه تجربته مع الكتابة بصدق، ونبل وبساطة يليقان بعراب الجيل، كنت أعرف أنه يتحفظ على لقب "العراب" حتى سلَّم به لنا، في النهاية هو لقب توَّجه به جمهوره ولم يطلبه هو.
عندما كنت أرى تلك الصورة الواضحة تمنيت لو كنت مريم ابنته هذه، التي يحق لها أن تخبره بأنها تحبه، يحق لها أن تنسب نفسها له من دون الاتهام بالاستغلال، ثم عندما رحل وتصدَّع عالمي ألماً لغيابه المبكر فعلاً، حمدت الله أنني لست مريم، ففي النهاية تلك الفتاة الأكثر حظاً بأبٍ مثله هي الآن -بلا شك- الأكثر ألماً منا جميعاً؛ لقد غادر فارسها الأول.
أما الدكتور محمد، ولده الوحيد، فقد كان حزني على مصابه شكلاً آخر، ففي أول ظهور له نراه قد كتب للصحف الرسمية مقالاً يقول فيه إن والده ليس (إخوان)، وإنه يشكر أطباء مستشفى عين شمس على العناية بوالده طبعاً بعد أن هاجت موقع التواصل الاجتماعي على المستشفى الذي رحل فيه العراب فجأة، شاهدين على بعض تجارب ذويهم السيئة فيه، وبعد اتهام أنصار النظام للرجل بأنه ينتمى إلى جماعة الإخوان؛ فقط لأنه الكاتب الوحيد الذي لم ينافق النظام أو يمتدح بلا سبب كما يفعل الجميع، وجاء رحيله في وقت شديد الحساسية للنظام في مصر، كتب أحدهم: "رحل كاتب يوتوبيا في يوم إعلان فوز صاحب المدينة".
من الحزين جداً لمن يعرف مكانة محمد عند أبيه أن نراه اليوم يقف وحيداً أمام العالم ليحمي ميراث الأب والكاتب والمعلم، لا يوجد كلمة عزاء أدَّعي أنني أملكها تكفي لتعزية محمد ومريم في والدهما، قلبي مليء بالأسى على رحيله المفاجئ وعلى ما تعرض له في حياته من استغلال وبعد مماته مِن كل مَن ادَّعى معرفة الرجل بهدف تحقيق مكسب من وراء ذلك لأخذ ما يستطيع من شهرة الرجل وسمعته، كتب أحد الشخصيات الشهيرة على صفحته يطالب الشباب بموقف عملي من العراب الذى يدَّعون حبه، وهذا عبر شراء كُتبه من "المؤسسة العربية"، التي رفعت أسعار الكتب عقب وفاته، ومؤسسة خيرية شهيرة كانت تمتلك مشروعاً غير مكتمل، أعلنت على صفحتها بموقع فيسبوك مع صورة عريضة للعراب، أنها تدعو رواد الخير للتبرع لإكمال المشروع الذي قررت أن تطلق عليه اسم الدكتور!
فرقة شبابية نعرفها من أيام ثورة يناير، قد سارعت بغناء قصيدة "شرايين تاجية" للدكتور، كان الأداء على جمال الصوت واللحن مليئاً بالأخطاء اللغوية، لكنهم قد استجابوا لاحتجاجات جمهور العراب وأعادوا تسجيل الأغنية بشكل صحيح لغوياً، وقد كانت الأغنية فى وقت نحتاج فيه أن نرى كلمات العراب تدب فيها الحياة.
لقد حملت أصيص نعناع إلى بيتي يوم دفنه، هناك ارتباط شرطي جميل بينهما لمن يعرف، ذهبت في ذلك اليوم إلى إحدى المحاضرات؛ لعجزي التام عن الوقوف في جنازته، التي وقف فيها الكثير من محبيه، وكنت قد طالبت المحاضِرة بأن تمنحني فرصة للحديث، حيث أخبرتهم بأن والدي ومعلمي قد توفاه الله وهو كاتب أيضاً، فنظرت لي تلك السيدة وقالت: "بتاع الكتب الصغيرة الحلوة.. صح؟".
فوجئت بأنها تعرفه، فالمرأة ليست من جيل الشباب، قالت لي إننا جيل محظوظ، وإن أولادها أيضاً يبكون على الرجل الذي لا تعرف عنه غير أنه يكتب قصصاً حلوة تملأ مكتبتها، وأنها غارت من أبنائها وقرأت للرجل، وترى نفسها ليست محظوظة؛ لأنها لم تقرأ له من قبل، ختمت كلامها قائلةً: "جمِّعوا نفسكم وأكمِلوا طريقه".
العراب، الكاتب الذي ما زالت حكاياه قيد الحياة، قد وضع الشبابُ على قبره كلماته "جعل الشباب يقرأون". على من يحبونه حقاً أن يبحثوا عنه في كلماته، وأن يرسلوا له باقات الزهور في شكل دعوات مضيئة، إنها الجمعة الثالثة التي لا ينبض فيها قلبه، الذي أمرضته وأسكتته أخيراً همومُ هذا الوطن، وأكثر حقيقة تؤلمني أنه لن يكون حاضراً معنا في رمضان، الذي نسأل الله بلوغه، لكن هناك آلاف القلوب ما زالت تنبض بحبِّه وبذكراه، وعليها مسؤولية أن تحمله معها في ساحة الدعاء التي تصل مَن قطعتهم الحياة..
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.