هل شاهدت فيلماً إيرانياً من قبل؟ لو كنت مثلي، فلربما سمعت كثيراً عن أفلام إيرانية تحصد الجوائز العالمية وتحظى باحترام وإعجاب دوائر النقد السينمائي الغربية.
منذ زمن وأنا أرغب في أن أستكشف فن إيران السينمائي، وأخيراً، منذ حوالي الأسبوعين، قمت بتأجير فيلم إيراني، واخترته بناء على تقييم المشاهدين في موقع التأجير.
ولبثت أياماً لا أجد متسعاً من الوقت لمشاهدته، حتى أعطاني طيف من المرض إجازة بيتية ليوم واحد، كان كافياً لمشاهدة هذا الفيلم "السمائي"، كما يوحي اسمه بصدق.
ليس في الفيلم إبهار غير إبهار البراءة وصدق التعبير، فهو بسيط في إنتاجه وفي تصويره، والأبطال محور القصة هما طفل وطفلة. لكن عبقرية المخرج أتت بطفلين يحملان رسالة الفيلم على أكتافهما الصغيرة، وعلى أكمل وجه.
تدور عقدة القصة حول حذاء! وفي ثنايا القصة البسيطة إشارات إنسانية واجتماعية تصل إلى قلبك مباشرة، حتى لقد تدمع منك العين.
الطفل الصغير الفقير "علي" ذهب للسوق لشراء بعض الطعام، ولإصلاح حذاء أخته الذي أهلكه الزمن. فالعائلة الفقيرة لا تجد من المال ما يكفي لشراء حذاء جديد، فهم يغالبون الحياة بصعوبة، ويجاهدون دون حاجاتهم الأساسية.
فقد "علي" الحذاء، وعاد إلى أخته حسيراً مكسوراً. كيف ستذهب "زهراء" لمدرستها دون حذاء! لم يجرؤ الطفلان على مصارحة أبويهما بالمأزق، خاصة أن "علي" يدرك بوضوح أن أباه لا يملك المال لشراء حذاء جديد لشقيقته.
في غرفة صغيرة هي كل بيت العائلة، تحادث الأخوان بالكتابة على مرأى من أبويهما، وهما يتظاهران بقراءة الكتب المدرسية وكتابة الواجبات.
ثم قرر "علي" أن يتبادلا ارتداء حذائه هو! وهكذا في كل صباح تذهب "زهراء" لمدرستها أولاً، ثم تعود عدواً إلى حيث ينتظرها "علي" قرب البيت مرتدياً الشبشب! فيأخذ هو الحذاء ويعدو إلى مدرسته التي تبدأ ظهراً!
هذا محور القصة، وفي ثناياها أحداث كبيرة، وأخرى صغيرة، لكنها شديدة اللطف. ذات مرة وزهراء تعدو بعد انتهاء مدرستها، للوصول لشقيقها في الوقت المناسب، سقط من قدمها الصغيرة أحد زوجي الحذاء في مجرى مائي ضيق. فيقضى المشاهد دقائق في متابعة مطاردة، طريفة ولطيفة، وزهراء تجري متعقبة الحذاء فتحاول التقاطه كلما همت به، ولكن دون جدوى، حتى اختفى الحذاء تحت بناء أسمنتي، ووراء قدرتها على الوصول إليه، فجلست الصغيرة تبكي! ورآها رجل عجوز طيب، فتعاون مع رجل آخر وجاء كلاهما بحذائها. وعادت زهراء غاضبة، وألقت الحذاء لشقيقها مقررة أنها لن ترتديه بعد اليوم. لكن أنّى لها أن تفر من الحذاء! فالاختيار ضيق: إما الحذاء، أو عدم الذهاب للمدرسة على الإطلاق، وربما أيضاً "علقة" مؤلمة من أحد الأبوين!
وتمر أحداث الفيلم بسيطة وطبيعية، حين ترى زهراء حذاءها المفقود في قدمي زميلة لها، تتبعتها زهراء حتى عرفت مسكنها، ثم عادت إلى شقيقها وأخبرته، فقررا الذهاب لتطلع الأمر، اختبآ قريباً من البيت، ثم رأيا رجلاً ضريراً يخرج حاملاً بضائع بسيطة للبيع، تصحبه وتقوده ابنته الصغيرة، مرتدية الحذاء المفقود! نظر الشقيقان إلى بعضهما، ففهم المشاهد أنهما تنازلا عن الحذاء!
حينما فاز "علي" بقلم جديد من أستاذه في المدرسة لتفوقه الدراسي، أهدى القلم لأخته. كان هذا ثاني قلم يعطيها إياه هدية، لشعوره بالذنب أن فقدت حذاءها ولكي يعوضها عنه بعض التعويض. ولم تكن زهراء تنظر للقلمين نظرة استنكار أو استقلال، لا بل تلقت كلاً منهما بسعادة وعرفان!
وتتابع الأحداث ببساطة وعمق وإشارات، وكشف للتناقض بين حياة الفقراء الذين يخلق حذاء واحد أزمة في حياتهم، وقوم آخرين في الطرف الآخر للمدينة يعيشون في قصور مسورة، وحدائق غناء!
وقرب النهاية، تعلن مدرسة "علي" عن سباق للجري، نظر "علي" في قائمة الجوائز، فوجد أن الفائز بالمركز الثالث يربح حذاء! ذهب إلى أخته مبشراً، سوف يدخل السباق ويفوز بالمركز الثالث، ويعطيها الحذاء الجديد.
ولو كان الحذاء الجديد لا يصلح لها، فمن الممكن استبداله بحذاء يليق عليها. ودخل "علي" السباق. ولم يكن في حاجة إلى تدريبات طويلة، فعدْوُه اليومي بعد أن يحصل على الحذاء من أخته حتى يستطيع وصول مدرسته دون تأخير كان ولا شك تدريباً طويلاً وكافياً على الجري! هذه هي الحاجة حينما تصنع المهارات والأبطال! ودخل "علي" السباق وحده، وحوله أطفال آخرون يصورهم أهلم، وبهم يحتفون.
ارتدى حذاءه المشترك المتهالك، وجرى أربعة كيلومترات كاملة، هي مسافة السباق. قرب النهاية، كان "علي" في الزمرة المتقدمة. بدأ يلاحظ ويحاول أن يفسح الطريق لاثنين من المتسابقين لكي يتقدما عليه، فلا أمل في الحصول على الحذاء لو جاء في المركز الأول أو الثاني! هدفه هو المركز الثالث! وأتاه من خلفه زميل في السباق غلبت عليه نفسه الشريرة، فدفعه دفعة وقع لها "علي" فقام مسرعاً، وبذل كل جهده كي يلحق بما فاته من جراء الوقعة. لم يركز هذه المرة كثيراً في موقعه بين المتسابقين، فقد خلفته الوقعة كثيراً عن المركز الثالث، لذلك جرى وجرى حتى وصل، ثم سأل مدرسه إن كان قد فاز بالمركز الثالث، فبشره المدرس، ولم التفكير في المركز الثالث يا بطل، لقد فزت بالسباق، بالمركز الأول!
غالب "علي" الدموع خلال الاحتفال بفوزه، وعاد إلى أخته، وحينما رأته حزيناً، أدركت أنه لم يفُز بالحذاء كما وعدها، فأعرضت عنه حزينه وتركته.
جلس "علي"، وخلع حذاءه وقد اهترأ من السباق الطويل، ولم يعد صالحاً للاستخدام البشري! ووضع قدميه المتورمتين في الماء.
لك أن تتخيل ما دار في ذهنه ساعتها، وكيف غلب اليأس على نفسه والعجز، ثم رأينا الوالد وهو عائد للبيت، يحمل لولديه حذاءين جديدين!
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.