أذكر أنني -ومنذ سنوات عديدة- خرجت مع والدي لشراء حذاء لي، وما أن استقر بنا المقام في أحد المحلات حتى دلف زوجان إلى المحل، كان الزوج شاباً بسيط المظهر من النوع الذي لا بد أنه يعاني كثيراً فقط للحصول على (لقمة العيش)، ثيابه ذابلة لكن نظيفة، وحذاؤه مهترئ، لكنه ليس هنا من أجل ذلك الغرض؛ إذ سرعان ما طلب -بخجل- من البائع عدداً من الأحذية ليعرضها على زوجته.
كانت زوجته بدورها لها نفس الهيئة المتواضعة، وإن كان شعور عام من الطمأنينة والامتنان يشيع في محياها الطيب.
وبمجرد أن بدأ البائع في عرض بضاعته عليها حتى بدأ يظهر على زوجها بعض الارتباك الذي من المؤكد أنه انعكاس لتفكيره في مدى صلاحية الجنيهات الصغيرة في جيبه لأداء الغرض، لكنها على العكس لم تظهر ارتباكاً حتى لا تزيد الطين بلَّة، بل أبدت سعادة رقيقة، وهي تفاضل بين هذا الحذاء أو ذاك، حتى اختارت واحداً -بسيطاً بدوره- ما أن عرف زوجها بسعره حتى زال عنه الارتباك، وحلَّ محله الشعور بالرضا المصاحب؛ لأنه أنهى لتوّه مهمة كانت تشكل عبئاً على كاهلَيه!
وما إن خرج كلاهما ممسكَين بيد بعضهما ومعهما غنيمتهما التي اكتسبت -بفضلهما- قيمة أكبر بكثير من قيمتها الحقيقية، حتى شعرت فجأة بموجة عارمة من الحب تغمر المكان بأكمله.
هو الذي آثرها على نفسه، وكان حريصاً على إعطائها الأمان لأن تختار بنفسها ما تريد برغم ارتباكه الواضح لضيق ذات يده، وفرحته الحنونة بما اشتراه لها؛ لأنه أسعدها فقط وليس لأي شيء آخر.
وهي التي كانت تدرك في قرارة نفسها الأمر برمَّته، فلم تظهر إحجاماً عن أي من المعروضات، إلا بحجة أنه لا يعجبها، وليس لثمنه حتى لا تشعره بالعجز أو انعدام الحيلة، وفي نفس الوقت اختارت ما تعرف أنه سيقدر عليه دون امتعاض، بل بسعادة حقيقية كمن حِيزت لها الدنيا بحذافيرها!
عندها قفزت لذهني الآية الكريمة "الرجال قوَّامون على النساء"، وشعرت بأن في هذا المشهد القصير تلخيصاً لمعناها البليغ.
تذكرت مؤخراً ذلك الموقف كنوع من التمسّك بالأمل في وجود المشاعر الصادقة في عالم يملأه الزيف الاجتماعي.
عندما أقارن ذلك -ومواقف مشابهة أخرى- بحال كثير من (famous couples) على السوشيال ميديا أشعر بالسخافة وعدم القدرة على المقارنة أصلاً!
والأكثر إثارة للغيظ هو عدد المشاهدات الفلكية التي يحصل عليها هؤلاء لمجرد أنهما يقومان بعمل (حلة محشي) مثلاً أو يقومان بإحدى تلك التمثيليات المصطنعة التي يحاولان بها إظهار رومانسيتهما الجمة وتفاهمهما معاً!
أما عن التعليقات فحدِّث ولا حرج، جيش من الناقمين والناقمات على حياتهم التي تخلو من مثل هذه الرومانسية، وجيش آخر من المادحين، والناصحين، والحاسدين -بلا أي داعٍ في الحقيقة- والمتابعين الدائمين لكافة تطورات حياتهم الفارغة.
أولاً: أنا لا أتخيل وجود أي دافع وراء عرض أدق تفاصيل الحياة الشخصية لأي زوجين على الملأ سوى لجلب المشاهدات، وحصد سيل من الإعجابات يكفي لإشباع نرجسيتهما ورغبتهما في الظهور بالمظهر المثالي الذي يحلم به الجميع ولا ينالونه؛ لأنه ببساطة غير موجود.
ثانياً: لا أتخيل مدى سذاجة المتابعين الذين يستقون نظرتهم للحب من مثل هؤلاء، أعني ما الذي يتوقعونه؟!
من الطبيعي جداً ألا يظهر الناس سوى القشرة الخارجية الناعمة لأي جانب من حياتهم بمنطق (إذا بُليتم فاستتروا)، وهذا لا يعني بالضرورة أن تكون حياتهم جحيماً وراء الكاميرا، لكنها -بالتأكيد- ليست جنة كما يظنون.
ثالثاً: من قال إن حياة كتلك التي يعرضونها طواعية على الملأ هي أجمل حياة ممكنة؟
لا أتوقع لحياة بمثل هذه السماجة وحب التظرف -كما أراها- أن تكون حقيقية أو طبيعية بأي شكل من الأشكال.
لا بد من القليل من كل شيء، القليل من جميع ألوان الطيف، ودرجات السلم الموسيقي ليصبح للحياة معنى وشكل ولون، وإلا أصبحت مملّة بشكل لا يطاق!
الحقيقة أن الكلام عن التأثير السلبي للسوشيال ميديا على الناس يطول شرحه، إلا أن التأثير الأعمق على الإطلاق هو أنه جعل البشر سطحيين بما لا يقاس.
لا.. ليسوا مغفّلين ليفقدوا القدرة على التفرقة بين الحقيقي والمزيف، بل الأدهى أن أغلبهم يعرفون الزيف حق المعرفة، ويظلون يفضلونه على أية حال؛ لأن الجميع يفعل ذلك!
نحن في حالة متقدمة من الانخراط حتى الأذنين في هذا الواقع الافتراضي، لدرجة أن الواقع الحقيقي أصبح يبدو بعيداً جداً، أو بمعنى أصح.. نحن أصبحنا بعيدين عنه.
فجوة عميقة أصبحت تتسع يوماً بعد يوم بسبب تغيّر أفكارنا عن كل شيء للأسوأ.. الصداقة، الحب، الأسرة، الدراسة، العمل.. والسياسة أيضاً.
الأمر الذي جعل من السهل جداً على أي طرف -يتمتع بقدر معقول من الذكاء- أن يدير رؤوس الناس جميعاً نحو هدفه ببعض العبارات المنتقاة بعناية؛ ليتحول فجأة إلى هدفهم أيضاً ومعنى حياتهم بأكملها!
لا يهم مَن على حق.. لا يهم ما الصواب.. لا يهم أين الحقيقة من كل ذلك، كل ما يهم هو عدد الإعجابات والمشاركة القادرة على إحداث التأثير المطلوب.
والمهم هو استغلال الناس دون أن يشعروا بأنه يتم استغلالهم فعلاً لخدمة قضية بعينها، بل ودون أن يفكروا كثيراً في المستفيد طالما أنهم يفعلون ما يلزم للظهور بشكل أفضل وأكثر إنسانية، ولكم شهدنا منشورات نصفها يدعو لأقصى اليمين، ونصفها الآخر يدعو لأقصى اليسار.. والجميل أن الاثنين يبدوان مقنعين لدرجة التبنّي!
طبعاً ناهيكم عن الجانب الأخلاقي الذي انحدر بشدة، وجعل من السهل على كل شخص -مختبئاً خلف شاشة جهازه- أن يصدر أحكاماً دون تفكير، وأن يسب ويلعن كيفما اتفق طالما أنه آمِن تماماً في بيته وبعيد عن أي اتهام.
لم تعد الكلمة لها وزن؛ لأن الكلام كثير جداً، ولا يوجد ما هو أسهل منه، لم يعد للمشاعر رونق؛ لأنها -أيضاً- كثيرة جداً، ومصطنعة حد الافتعال.
لم تعد للآراء ثِقَل، طالما أنها تخصّك وحدك، وأنت غير قادر على حشد المئات أو الآلاف من المؤيدين لدعمها.
(ليس المهم أن تكون.. بل أن تبدو)، كما لخّص أحمد خالد توفيق وضعنا في إحدى المرات.
لذا تحية شكر وإجلال لهؤلاء (الحقيقيين) المتمسكين بمشاعرهم وأفكارهم وشخصياتهم هم دون سواهم وسط طوفان من المشاعر والأفكار والشخصيات المزيَّفة والخادعة لدرجة التصديق.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.