في الثامن والعشرين من أبريل/نيسان 2013، نشرت هيئة الأمم المتحدة للمرأة (UN Women) نتائج بحث قامت به الهيئة على الفتيات والنساء في بعض محافظات مصر، أكدت فيه زيادة نسبة التحرش في مصر بصورة غير مسبوقة، حيث أجابت 99.3% من النساء والفتيات اللاتي شملهن البحث، بأنهن تعرضن لنوع من أنواع التحرش الـ13 التي حددتها هيئة الأمم المتحدة.
وأكدت الدراسة عدم استيعاب بعض الفتيات والسيدات بعض أنواع التحرش، حيث تم شرح طرق التحرش الـ13 لهم والتي أقرتها الأمم المتحدة لتفاجئ بعضهن بأنهن كُنّ عرضة للتحرش.
وأشارت الدراسة إلى أن أشهر أنواع التحرش كان لمس جسد الأنثى، حيث عانى 59.9% من النساء هذا النوع، بينما جاء في المرتبة الثانية التصفير والمعاكسات الكلامية، حيث عاناها 54.5% من النساء والفتيات.
هذه واحدة من الإحصائيات المخيفة، حول التحرش في مصر، وهي البلد الذي يتنافس مع "أفغانستان" في الحصول على المركز الأول، بين دول العالم الأكثر عنفاً ضد المرأة… في حقيقة الأمر، أسوأ كوابيسي الشخصية هو احتمالية لم تعُد قابلةً للحدوث، والحمد لله، وهي أن يخلقني الله "أنثى" في بلد مثل مصر.
بعيداً عن رصد ما تتعرض له المرأة في مصر من انتهاكات متعددة، خلال وجودها في المجال العام، خاصة فيما يتعلق بموضوع "التحرش الجنسي"، كنتُ مشغولاً دوماً بالتفكير في أثر هذا المناخ على علاقة الرجل بالمرأة.. كيف يمكن أن يكون وضع الرجل، الذي ما زال محتفظاً ببعض العقلانية التي تمكنه من إدراك ما تتعرض له المرأة في مصر من انتهاكات مخيفة، في هذا المناخ؟ وكيف تكون علاقته بالمرأة، في ظروف مجتمعية لا يعلو فيها صوت على صوت "الخوف"؟
إن رأيتني أسير بسرعة، في شارع شبه خالٍ، فلا تجعل هذا يخدعك؛ فتظن أنني على عجلة من أمري.. في واقع الأمر، أنا أبعدُ ما يكون عن هذا؛ حيث إنني رجلٌ بدينٌ، يُقدِّر التمهُّل في السير، وأكثر ما يغيظه هو أن يتصبب عرقاً، لكنني أفعل هذا دوماً كي أسبق فتاة وحيدة تسير أمامي في شارع لا يوجد به غيرنا، أو تقلُّ به حركة السير.. أفعل هذا مضطراً، كي أُثبت لها أنني لستُ متحرشاً، وأنني لن أحاول مضايقتها بلفظ قبيح، أو أبادر بمحاولة لمسها رغماً عنها، ولن أسعى لاختطافها واغتصابها في مكان مهجور.. لن أفعل أياً من الأشياء السوداء التي تدور في رأسها، والتي جعلت "الأدرينالين" يندفع في عروقها؛ فأشمه واضحاً على بُعد أمتار.. كتلة من الخوف والأدرينالين والخبرات السيئة تسير على بُعد أمتار، فزعةً مني، دون أن أفعل أي شيء، سوى كوني "ذكراً"؛ فأجد نفسي مهرولاً، في محاولة لإثبات أنني لستُ متحرشاً.
وإذا ما رأيتني منكمشاً بشدة في جلوسي، بإحدى المواصلات العامة، أحاول تقليل المساحة التي يشغلها جسدي لأقصى درجة؛ فهذا ليس لأنني أحب الجلوس هكذا؛ بل لأن هناك فتاة تجلس بجواري، ولكي أثبت لها أنني لستُ متحرشاً.. ولن أبادر بلمسها، أجد نفسي أبادر بفعل هذا، حتى دون أن يصدر عن الفتاة التي تجاورني أي شيء يدل على خوفها.. وهكذا تسير حياتي، وحياة ملايين الرجال في "مصر".. حياة ممتدة تحياها وأنت موصوم في عينيّ كل امرأة غريبة بأنك "متحرش"، وعليك أن تثبت براءتك، تثبت العكس.. في روايته الكابوسية "المحاكمة"، كان "كافكا" يحكي معاناة هذا الرجل الذي يذهب كل يوم لتحقيقات واستدعاءات ومحاكمة، دون أن يعرف تهمته.. شيء مُقبض كما ترى، وغير عقلاني.. أمّا أنا، في حياتي الكافكاوية هنا في "مصر"، أَخرج كل يوم إلى الشارع وأنا متَّهم بتهمة لم أرتكبها في حياتي، لكني مجبَر على السير وأنا أحملها على ظهري كصليب العُصاة.
أحياناً أتخيل نفسي جالساً بصحبة شاب فرنسي، مثلاً، في سني نفسها، وأنا أحاول أن أجعله يستوعب أنه، في مجتمع كالمجتمع المصري، قد تكون كلمة شديدة الرقة مثل "أحبك"، هي أحد الأشياء التي قد تستجلب اتهام الشاب بالتحرُّش بالفتاة التي يحدثها على فيسبوك، أو عبر أي من برامج المراسلات المتعددة.. شيء في منتهى البؤس والجنون كما ترى، لكنه حقيقة واقعية نعايشها في "مصر" كل يوم.. يجد الرجل نفسه مطالَباً ببذل جهود مضنية، في بداية علاقته بأي فتاة يتعرف عليها، أياً كانت طبيعة العلاقة التي ستنشأ بينهما، محمّلاً بإرثها الأسود وتجاربها السيئة مع مئات الرجال من قَبله.. حينها، يكون عليه أن يطمئنها، ويزيل حاجز هائل تشكله كل ذكرى تحتفظ بها الفتاة في عقلها الباطن عن كل حادثة تحرُّش تعرضت لها.
ودون أن أفعل أي شيء، أنا مُتهم بـ"التحرش"، بالنسبة لكل فتاة غريبة عني، وعليَّ أن أثبت العكس دوماً.. فلا تندهش إذا وجدتَني غير ودود، أو متحفظاً بشكل مبالغ فيه، في حضور أي فتاة غريبة عني؛ فهكذا تجري الأمور هنا، حيث "الخوف" هو سيد المعادلة.. وأن تكون "خائفاً" خيرٌ من أن تكون "مخيفاً".
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.