لا يخفى على أحد ما أصاب الشكل المعماري للمباني في أنحاء مصر من فوضى وتشوّهات.
إن أي نظرة سريعة على عماراتنا ومبانينا القائمة حالياً تُثبت أن معظمها يتسم بالعشوائية ويفتقد معايير التصميم العالمية، إلى جانب تباين ألوان الواجهات والشرفات حتى في المبنى الواحد، وغياب الذوق العام. بل إن الكثير من المنازل التاريخية الجميلة -وخصوصاً في الإسكندرية- تخرج من قوائم المباني المتميزة ويتم إصدار تراخيص هدم لها رغم قيمتها التاريخية والمعمارية.
ولو أننا تابعنا أفلام الأبيض والأسود، للاحظنا كم كان الشارع المصري نظيفاً ومنضبطاً، ومبانيه تجمع بين الأناقة والنسق العمراني المهيب، الذي يعود في بعض أصوله إلى العصر الخديوي.
إن العمارة هي مكونٌ مصنوع للناس؛ لذلك فإن مفهوم الذوق العام لهو واحدٌ من أهم المفاهيم التي تحتاجها العمارة؛ لأن العمارة تخاطب الناس وعيونهم ووجدانهم، كما تعكس ثقافتهم وتحضرهم.
لدينا كيانٌ يُسمى "الجهاز القومي للتنسيق الحضاري"، يتبع وزارة الثقافة، والمفترض أنه منوطٌ بالحفاظ على تراثنا الحضاري من الضياع والاندثار.
غير أن هذا الجهاز دوره غائبٌ عن الشارع وتأثيره محدود، إن لم يكن معدوماً.
إن العشوائية المعمارية أصبحتْ منتشرة وضاربة بجذورها في كل أحياء المحروسة، بل صارت جزءاً من ثقافة الناس وخطابهم، وبنظرة خاطفة منك لأي عمارة من عمارات المحروسة، وفي أي حيٍّ من أحيائها، ستجد العشوائية تسكنها، فلا انتظاماً في شكلها الخارجي، أو مدخلها، أو سطحها.
منذ خمسينيات القرن العشرين، ظهر أيضاً نمطٌ عمراني أسهم لاحقاً في زيادة قبح الشكل المعماري في مصر، ونعني بذلك نمط العمارة الوحشية، وتمثل في المباني الحكومية والمساكن الشعبية وحتى المباني التعليمية. وقد سُمي ذلك النمط بالوحشية؛ لأنها مشتقة من الكلمة الفرنسية "الخرسانة الخام"، ومن أهم ما يُميز تلك العمارة، كما يمكن بسهولة ملاحظته من مباني تلك الفترة -التي ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا مع الأسف في مصر- قيامها على تكرار الجزء في كل المبنى.
الثابت أن معظم المصريين يحرصون على وحدة وجمال معمار شققهم، وراحة المقيمين فيها، وربما مدخلها فقط، أما شكل العمارة الخارجي وسُلَّم العمارة أو مدخلها، فهو شأنٌ لا يهمهم، فالخراب والقبح الناجم عن تسرب المياه مشهدٌ مألوفٌ للغاية، وصيانة المبنى من الخارج فريضة غائبة، وبالطبع لا داعي للحديث عن إهمال الرصيف والشارع ومحاولة مصادرته على يد هذا الساكن أو المستأجر، مما يؤكد ولَع المصريين المعاصرين بالشأن الخاص، وعدم اكتراثهم بالفضاء الذي يتجاوز شققهم أو بيوتهم، أي الفضاء العام، ومن ثم المجال العام سواء كان سياسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً، فالأنامالية هي الموجّه القيمي والسلوكي لأغلبية المصريين.
أما أسطح العمارات والبيوت في المحروسة، فهي بكل المقاييس والدلالات مجالٌ فريد وغريب لممارسة السلطة والصراع والتنافس، ولكن في مشهد يعجّ بالفوضى ومختلف أشكال التلوث البصري.
فوق أسطح البيوت المصرية حالة من الفوضى وقلة النظافة وحطام الأثاث القديم والقطع المهملة من الخشب والحديد الصدئ والأسلاك، في مشهد يلخص معنى القبح.
ولا يفوتنا هنا أن نُشير إلى حالة الصراع وغياب التعاون بين أصحاب المحال التجارية، فضلاً عن مخالفة القوانين باحتلال الرصيف أو بروز الواجهات واللافتات، أو وضع السلاسل والبراميل وأسياخ الحديد لمنع أي سيارة من الوقوف أمام المحل.
وقد يعمد البعض إلى عدم مراعاة اشتراطات السلامة، أو إحداث ضجيج صوتي عبر أجهزة التسجيل والميكروفونات وخلافه.
يجسّد هذا صراعات وممارسات عدوانية تجاه الآخرين من سلطة وأفراد، وتحدياً سافراً للقانون والمنظومة القيمية والأخلاقية في المجتمع.
هذه المشكلات تستفحل، والخطر يزيد، والكارثة تنتظر الوقوع، في ظل عدم وجود تدخل حقيقي وحاسم بموجب القانون لوقف التجاوزات من فوضى بصرية أو اشتراطات أمن وسلامة أو قواعد نظافة، وغير ذلك من أمور.
المشهد تسوده هذه الفوضى الناتجة عن غياب الذوق العام وعدم وضوح المراد بـ"الهوية المصرية المعمارية"؛ لذا فإن استعادة التنسيق المعماري واسترجاع الهوية هو أمرٌ بالغ الأهمية، وهو ما يتطلب فهماً عميقاً وشاملاً للمشكلة والحلول المطروحة ومحاولة تطبيق الطرق المُتبعة لمواجهة المستجدات الطارئة على الساحة، وإلا فإن كل محاولة قد تنتهي إلى تقليدٍ سطحي كما نرى في الكثير من الأمثلة الموجودة في شوارعنا.
إنَّ ما نراه الآن هو حالة من الفوضى المعمارية ودليلٌ واضحٌ على فقدان ملامح ومحدّدات الشخصية الثقافية الوطنية، فقد أصبحتْ المدينة خلفيةً لصورة هوية لم تُحدد بعد، وأصبحت العمارة صماء فاقدة لكل وسائل تفاعلها مع المستخدم.
يجب أن نبدأ في تحديد الملامح الثقافية للشخصية المصرية من هي الآن؟ وما الذي يعبر عنها؟ ما هي نسبة الموروث داخلها؟ وما هو قدر المدخل من الثقافات الغربية؟ ما هي رسالة الدولة التي يجب أن تنعكس في مبانيها الحكومية.
ربما يَتعيّن تحديد الإجابات على كل تلك الأسئلة قبل البدء في أية مشروعات عمرانية جديدة؛ حتى لا تُصاب الشخصية المصرية بمزيدٍ من التشوّه وفقدان الملامح، الذي حتماً سينعكس على الحياة الاجتماعية من سلوك فوضوي، ويؤثر على الحالة الشعورية فيفرز شكلاً عبثياً مشوهاً فاقداً للرؤية والهدف والرسالة.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.